يعتقد الكاتب والباحث الفلسطيني في شؤون الفكر الإسلامي الدكتور غازي التوبة، أن معجزة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مضمونية بالأساس، وتتصل بمحتوى القرآن الكريم وأطروحاته الرئيسية في بناء الفرد المسلم، والأمة المسلمة والدولة المسلمة..
ويشرح الدكتور التوبة، في هذه الورقة الخاصة بـ "عربي21"، نظريته تجاه معجزة الرسول محمد صلى الله عليه سلم، في أربعة أجزاء:
علام يقوم "المضمون القرآني المعجز"؟
يقوم المضمون القرآني "المعجز" على حقيقتين:
1 ـ صوابية هذا المضمون وأنه حق كامل وعلم شامل، بكل تنوعاته من مبادئ وأفكار وعلوم وأخلاق وآداب ونصائح وتوجيهات ومفاهيم وتشريعات، وأخبار عن الله وصفاته والآخرة، وعن خلق الإنسان والكون والروح، وقصص الأنبياء وإهلاك أقوامهم إلخ....
2 ـ كمية المضمون ونوعيتها التي قدمها القرآن الكريم في كل موضوع من الموضوعات، فقد جاءت بقدر معيّن وحقائق معينة لتكون مناسبة لبناء "الإنسان المعجز" حسب حاجاته العقلية والنفسية والجسمية، و"الأمة المعجزة" بكل ما تحتاج من ثقافة وأخلاق وآداب وقيم إلخ.....، و"الدولة المعجزة" بكل ما تحتاجه من تشريعات وأحكام إلخ.....، لذلك لم تأتِ تلك المعلومات والأخبار والقصص والعلوم والحقائق والمفاهيم والأفكار التي وردت في القرآن الكريم لتجعل منه كتاب علوم أو جغرافيا أو تاريخ أو طب إلخ....، إنما جاءت تلك المعلومات والعلوم والحقائق والمفاهيم والأفكار بذلك القدر من أجل بناء إنسان ومجتمع ودولة.
ثم إني أعتقد أن هذا المضمون المعجز الذي هو كلام الله، ورسالة الله الأخيرة إلى البشر والتي دعا إليها الرسول محمد ﷺ، لا يليق به أن يكون كلاماً عادياً كسرد الآخرين في شعرهم ونثرهم، بل الذي يليق بهذه الرسالة الأخيرة أن يكون هذا المضمون المعجز بأسلوب معجز في بلاغته وبيانه ولغته.
ومما يليق بكلام الله ذي المعاني الصحيحة والجليلة والحقة أن يكون موضوعاً في مباني توازي جلال المعاني وعظمتها وأهميتها، لذلك كان القرآن الكريم ذا نظم معجز في ألفاظه وفواصله وأمثاله وقصصه، وقد وصفه الله تعالى بأنه مفصل، ومبين، وميسر للذكر إلخ ....، فقال تعالى:
"ألر، تلك آيات الكتاب المبين"(يوسف، 1)، وقال تعالى: "وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً" (الأنعام، 114)، وقال تعالى: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"(القمر، 17) إلخ......، وقد اتصف القرآن الكريم بالإعجاز البلاغي البياني اللغوي من أجل أن يستطيع أن يتعامل المسلمون مع المضمون بصورة دقيقة وسليمة وواضحة، من أجل أن تساهم تلك الدقة والوضوح والإعجاز في الألفاظ والأسلوب في بناء دقيق للفرد والمجتمع والدولة.
ولكن العرب القدماء اعتبروا أن الإعجاز البلاغي هو الإعجاز الأول، وأنا أعتقد أنه جانبهم الصواب في هذا الموضوع، فهو ليس الأول ولكنه تال للإعجاز في المضمون وفي تحقيق هذا المضمون في واقع الأرض في ثلاثة أشياء معجزة هي أيضاً: الصحابي المعجز، الأمة المسلمة المعجزة، الدولة المسلمة المعجزة.
بناء المعجزات الثلاثة: الإنسان، الأمة، الدولة.
وضحنا سابقاً أن التحدي بالسورة كان المقصود منه التحدي بالمضمون أولاً وهو الجانب الرئيسي من إعجاز القرآن الكريم، وقد بيّنا أن إعجاز المضمون تجلّى في إعجاز آخر هو بناء "إنسان معجز"، و"أمة معجزة"، و"دولة معجزة"، فكيف بنى القرآن الكريم ذلك؟
أولاً: بناء "الإنسان المعجز" = "الصحابي":
ليس من شك بأن بناء إنسان متوازن فعال إيجابي من أصعب الأمور وأدقّها وأعقدها، لأن ذلك يتطلب معرفة كوامن النفس الإنسانية والعوامل التي تقوم عليها، ويتطلب القدرة على تفعيل نوازع الخير وضبط نوازع الشر عنده، كما يتطلب معرفة العقل البشري عند الإنسان، وعلاقته بالقلب، وكيفية توجيهه ليكون مبدعاً مبتكراً، كما يتطلب معرفة أهم العناصر لحفظ الجسد من الضياع.
ليس من شك بأن القرآن الكريم الذي أنزله الله الخبير العليم الحكيم قد احتوى على كل تلك المعارف والحقائق التي قام عليها القلب والعقل والجسد، واحتوى على أسرار وخفايا خلق الإنسان من كل جوانبه، وقدّم المبادئ والتوجيهات والأفكار التي تبني العقل والقلب والجسد خير بناء، فما هي معالم هذا البناء؟
أ ـ بناء "العقل المعجز":
ربما امتاز الإسلام عن غيره من الأديان والمبادئ والمناهج البشرية، أنه بنى العقل، ولم يتركه لمناهج أخرى تفعل هذا، وهذه إحدى نقاط التميز والعظمة والربانية في هذا الدين الإسلامي، وكان القرآن هو الأداة الأساسية لهذا البناء، فكيف تحقق ذلك؟
لقد ذكر "لالاند" الفيلسوف الفرنسي أن العقل البشري في أي مرحلة يتكون من أمرين: "العقل المكوِّن" و"العقل المكوَّن".
وعرّف لالاند "العقل المكوِّن" أو "الفاعل" بأنه "النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة ليصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ" وبعبارة أخرى إنه "الملكة التي يستطيع بها أن يستخرج من إدراكه العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية ضرورية هي واحدة عند جميع الناس".
كما اعتبر لالاند أن "العقل المكوَّن" هو "مجموع المبادئ والقواعد التي نستخدمها في استدلالاتنا". ويقول لالاند أيضاً: "إن العقل المكوَّن والمتغير ولو في حدود، هو العقل كما يوجد في حقبة زمنية معينة، فإذا تحدثنا عنه بالمفرد، فإنه يجب أن نفهم منه العقل كما هو في حضارتنا وزماننا"، وبعبارة أخرى: "هو منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما، والتي تعطى لها خلال تلك الفترة قيمة مطلقة".
ليس من شك بأن القرآن الكريم قام بدور "العقل المكوَّن" لعقول الصحابة، وأصبح مرجعية لها، فهو قد أعطى لعقول الصحابة نظرة جديدة إلى كل شيء، فقد أعطاهم نظرة جديدة إلى نشأة الكون والحياة والإنسان، كما أعطى الوجود الإنساني هدفا محددا وهو العبودية لله، كما بنى عقل الصحابي بناءً خاصاً يقوم على معرفة ربه سبحانه وتعالى، وأن هذا الرب -جلّ جلاله- مباين للكون، منفصل عنه، لا يشابه أحدا من مخلوقاته، يمكن أن تدعوه فيسمعك، وهو يراك ويعلم بحالك ويستجيب دعاءك.
كما بين القرآن الكريم خطأ كثير من العقائد الجاهلية مثل عبادتهم الأصنام، وتسمية الملائكة بنات الله، وأخذ عليهم اتباع الظن والأهواء في كل ما يبنون عليه عقائدهم.
كما دعاهم القرآن الكريم إلى إعمال الفكر والنظر والتأمل في آيات الكون المحيطة بهم من ليل ونهار وشمس وقمر ونهر وبحر، وكيف أنها مسخرة لهم، وهي من نعم الله عليهم، ونعم الله لا يحصيها عد.
كما رافق القرآن الكريم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في كل أعمالهم من هجرة، وغزوات من بدر إلى أحد والأحزاب والعسرة والفتح إلخ…..، وبيّن أخطاءهم وقصورهم وسقطاتهم أحياناً، وأشار إلى إحسانهم وإيجابياتهم أحياناً أخرى.
أعتقد أن هذه الحقائق التي طرحها القرآن الكريم، والتي وعاها المسلمون هي التي ملأت عقولهم، جاءت في مقام "العقل المكوَّن"، وتجعلنا نقول إنها مثلت نظاما معرفيا جديدا يمكن أن نسميه "نظام القرآن المعرفي" وهو يختلف عن أي نظام معرفي عرفته البشرية.
وقد أنتج هذا "النظام القرآني المعرفي" عقلاً فريداً معجزاً، وعندما نقول إنه كان "عقلاً معجزاً" لا ننطلق من دعوى واهمة، بل سنرى تأكيد ذلك في أرض الواقع عندما نتحدث عن آثار ذلك "العقل المعجز" في فقرة تالية من هذا البحث.
ب ـ بناء "القلب المعجز":
تنزلت آيات القرآن الكريم في مكة المكرمة، فعرفت المسلم بالله وصفاته وأسمائه، قال تعالى: "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد"(سورة الصمد).
ثم وجهت هذا الفرد المسلم بأن يعظم ربه تعالى، ويخضع له، فقال تعالى: "يا أيها المدثر قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر"(سورة المدثر، 1 ـ 5).
ثم طلبت منه أن يخضع له فقال تعالى: "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ"(الرعد، 15).
ثم طلبت منه أن يحبه تعالى أكثر من كل محبوبات الدنيا فقال تعالى: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة، 24).
وطلبت منه أن يخافه تعالى فقال تعالى: "ولمن خاف مقام ربه جنتان"(الرحمن، 46)، وقال تعالى: "وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ"(النحل، 51).
وطلبت أن نرجوه سبحانه وندعوه ونطلب لقاءه فقال تعالى: "فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا"(الكهف، 110).
وقد نزلت آيات تتحدث عن النار وجحيمها، والجنة ونعيمها، وطلبت من الفرد المسلم أن يكون الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان عنده، وطلبت أن يوجه قلبه نحو رجاء الجنة والخوف من النار.
ثم شرع الإسلام العبادات كالصلاة والصيام والحج والزكاة التي يؤدي فيها المسلم أعمالاً قلبية وجسمية ومالية، يتقرب بآدائها إلى ربه سبحانه وتعالى، فيزداد قلبه تعظيماً لربه، ويخضع له تعالى، ويحل حلاله نعالى ويحرم حرامه، ويحبه أكثر من كل محبوبات الدنيا، فينتج بناء هذا القلب نفساً عظيمة تفرز سلوكاً متميزاً وإيجابياً وفاعلاً في كل المجالات من مثل: الكرم والشجاعة والتضحية والإيثار، والسماحة والتواضع وخفض الجناح وحسن الخلق والعفة والمروءة واحترام الآخرين وتقديرهم، والمحافظة على أعراضهم ودمائهم وأموالهم إلخ .....
وهناك تفصيلات أخرى كثيرة عن دور أركان الإيمان، وآيات القرآن الكريم في بناء القلب، لا مجال للحديث عنها وعن آثارها الآن، إنما لها مجال آخر إن شاء الله.
ج ـ بناء "الجسد المعجز":
لقد قامت معظم الديانات السابقة على الإسلام على اعتبار الجسد سجناً للروح، واعتبرت أن الشهوات والدنيا ملهاة ودنس تبعد الإنسان عن الآخرة، لذلك لابد من كبت الشهوات وتعذيب الجسد والانصراف عن الدنيا وأموالها ومتاعها، والانقطاع إلى الآخرة عن طريق الرهبنة في الأديرة وغيرها، على اختلاف بين ديانة وأخرى في تحديد وسائل تعذيب الجسد والانقطاع عن الشهوات، وصورة الخلاص النهائي.
لقد جاء الإسلام على عكس ذلك، فأقام كيانه على اعتبار الجسد قيمة يجب أن يحافظ عليها، ويعتني بها، وهو مسؤول عنها أمام الله، لذلك اعتبر قضاء الشهوة عبادة، وهي قمة الشهوات في الدنيا، فقال رسول الله ﷺ: "وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ"(صحيح مسلم).
هناك إشارة إلى أهمية الجسد في الدين الإسلامي، وهو وجود الماء من أجل تأدية العبادات، فالمعلوم أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، والوضوء شرط أساسي من شروط إقامة الصلاة، والوضوء مرتبط بالماء، والماء نظافة وطهارة للجسد، وهذه إشارة عظيمة من الإسلام إلى أهمية الجسد.
وهناك إشارة أخرى إلى أهمية الجسد، وهي رفض الإسلام أية عبادة تؤذي الجسد، وهناك حديث أبو إسرائيل، فقد نقلت الأحاديث أن رسول الله ﷺ دخل المسجد فرأى رجلاً واقفاً في الشمس، فقال: من هذا؟ قيل له: أبو إسرائيل، قال: ماذا يفعل؟ قالوا: نذر أن يصوم، ولا يستظل، ويبقى قائماً، فقال الرسول ﷺ: مروه فليتم صومه، وليستظل وليجلس(رواه أحمد).
من الواضح أن الرسول ﷺ رفض الأعمال التي تعذب الجسد، وأبقى الصيام الذي شرعه الإسلام للتقرب إلى الله.
وكذلك "دخل الرسول ﷺ مرة المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي ﷺ: لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد"(صحيح البخاري).
ليست العبادة ـ كما هو واضح ـ في نظر الإسلام إتعاباً أو إرهاقاً، بل هي مرتبطة بنشاط المسلم ويقظته وقوته، فإذا تعب فعليه أن يجلس ولا يكابر تعبه.
وبناءً على هذه النظرة حرم الإسلام عدة أمور: الرهبنة، والانتحار، وإيذاء الجسد، فقال الرسول ﷺ: "فإن لجسدك عليك حقا"(رواه البخاري).
ثم جاءت عدة آيات في القرآن الكريم توجه إلى بعض التصرفات التي هي أصل في صحة الجسم مثل قوله تعالى: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ") الأعراف، 31)، وقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء، 30).
من الواضح أن الإسلام اعتبر الجسد "قيمة" أساسية في الحياة والكون والمجتمع، لذلك اهتم به ودعا إلى رعايته والاعتناء به، وسنّ من التشريعات والأوامر والنواهي ما يكفي ليجعله أداة صالحة لحمل رسالة الإسلام وإعمار الكون.
إقرأ أيضا: ما معجزة الرسول محمد ﷺ الأولى والرئيسية؟ (1 من 4)
ما معجزة الرسول محمد ﷺ الأولى والرئيسية؟ (3من4)
هل ردُّ العالم المجتهد لأحاديث نبوية يقدح في دينه وعلمه؟
رؤية الماركسيين التونسيين لتاريخ الإسلام.. آراء وتحليلات