خطاب بعض، وفقط بعض، الإعلاميين والمغردين السعوديين الذي يمكن أن نطلق عليه وسم «خطاب التخلي» عن فلسطين، قد يُعدّ مقولات عابرة لا تمثل إلا قائليها، وظاهرة صوتية قصيرة العمر ليس أكثر. بيد أن فجاجته وشعبويته كانتا سببا في انتشاره بشكل كبير، على حساب مقاربات رصينة كان نصيبها الحد الأدنى من الانتشار، ذلك ان سرعة انتشار المضمون الشعبوي والتحريضي لا تقارن بسرعة ومدى انتشار الجاد والعقلاني. بكل الأحوال، لا يمكن التقليل من تأثير مضمون «خطاب التخلي» على كثيرين وخاصة الجيل الشاب في السعودية أو غيرها، ممن لا يعرفون تاريخ المنطقة الحديث، ولم يقرؤوا بعمق جذور وسيناريوهات الصراع مع إسرائيل والصهيونية. يقع هذا الجيل، في عصر التسطح الثقافي والمعلومة السريعة المجزوءة، ضحية الابتسار والانتقاء وأرباع الحقائق التي يتصف بها أصحاب «خطاب التخلي»، بما فيه التحريض والكراهية ضد الفلسطينيين. يتصدر هذا الخطاب أصوات تحسب نفسها على التيار الليبرالي، وتعتقد أن الليبرالية تعني التحلل من قيم العدالة والخضوع لمنطق الغالب والمنتصر، وتخلق تناقضا وهميا بين الانتماء الوطني لدولة ما والالتزام بموقف أخلاقي وقيمي وإنسانوي، ليس من قضية فلسطين فحسب، بل ومن كل القضايا العادلة في العالم. الأهم من ذلك هو أن «النزعة البراغماتية» القائمة على «المصلحة الوطنية السعودية»، التي يستند إليها أصحاب هذا الخطاب هي ذاتها تكشف هشاشته، وكيف يضرب هذا الخطاب تلك المصلحة السعودية، كما توضح هذه السطور أدناه، ويتبدى المتصايحون على المصلحة السعودية كمن يصفع نفسه بنفسه من حيث لا يدري.
في هذه المُقاربة، تفكيك أولي لثلاث خطايا يتصف بها «خطاب التخلي» عن فلسطين، وهي: الخطيئة السياسية، والخطيئة التاريخية، والخطئية القيمية، وتتناغم جميعا وتتداخل محاولة الاستقواء بعضها ببعض لتعويض الخواء الذي يحتل جوهر كل منها على حدة. قبل تناول هذه الخطايا بالتحليل والنقاش، تتوجب الإشارة هنا مرة اخرى إلى أن هذه السطور ابعد ما تكون عن التعميم واتهام الجميع، لأن ذلك ببساطة لا يتفق مع الواقع أولا، التعميم في هذه المسألة غير موضوعي ولا علمي، فالأغلبية الساحقة من السعوديين والخليجيين بعامة والشعوب العربية من الماء إلى الماء، كما تشير دراسات أكاديمية واستبانات متتالية، تقف بجلاء واضح إلى جانب فلسطين وعدالة قضيتها، وإلى جانب كل القضايا العادلة في هذا العالم.
أولا، الخطيئة السياسية، وتتجسد أوجه هذه الخطيئة في بعض منطلقات «خطاب التخلي» التي تزعم أنها تريد من الدولة السعودية أن تركز على مصالح الشعب السعودي ودولته فقط، ومن ثم فإن التخلي عن فلسطين (وربما غيرها من القضايا) سوف يوفر الاهتمام والموارد وسوى ذلك، ويكرسها لخدمة «الوطن» داخليا. أما خارجيا، فإن المصلحة السعودية العليا تكمن في فتح مسارات جديدة في السياسة الخارجية والإقليمية، يجب ولوجها حتى لو تصادمت مع الالتزام السعودي التقليدي بقضية فلسطين، ومنها مسار التطبيع مع إسرائيل والاستفادة من العلاقة معها. لنتأمل جوهر وجوانب هذه الأطروحة من زاوية براغماتية صرفة (هي التي ينطلق منها «خطاب التخلي») بعيدة عن استخدام شعارات الأخوة والعروبة والدين؛ لأنها مُسترذلة من قبل أصحاب هذا الخطاب.
ابتداء، ومن منظور فلسطيني، لا شك بأن تخلي حتى بعض السعوديين عن قضية فلسطين (تحت شعار فلسطين ليست قضيتي)، يؤثر على فلسطين والفلسطينيين ويؤدي إلى خسارة جديدة تُضاف إلى خساراتهم، بيد أنها تظل خسارة هامشية مقارنة مع الجمهور العريض الرافض لهذا الشعار وحامليه. لكن ومن منظور سعودي مصلحي، فإن الخسارة الأكبر والأكثر وطأة جراء هذا الخطاب، تقع في جانب السعودية نفسها، خاصة في هذا الوقت تحديدا؛ ولأن محفزات «خطاب التخلي» ونبرته تشير إلى مراهقة سياسية وفكرية وعدم نضح تاريخي، فقد غاب عن أصحابه سؤال (براغماتي) مزدوج يجب عليهم الإجابة عليه بصدق ذاتي هو: ماذا ستستفيد السعودية من تعزيز هذا الخطاب سواء داخليا أو في المنطقة، وماذا ستخسر وكيف سيتأثر موقع السعودية ونفوذها، بل وحتى تماسكها الداخلي؟ ما ستكسبه السعودية من وراء «خطاب التخلي» هو الكثير من المديح الإسرائيلي والأمريكي، النفاقي في جوهره والمشجع للمزيد من الخطاب ذاته، لكن من دون أن يترتب على هذا المديح بالضرورة أي مكتسبات عملية براغماتية؛ لأن اشتراطات تلك المكتسبات تدخل في نطاق حسابات مختلفة عند إسرائيل وأمريكا. والسنوات القليلة الأخيرة قدمت دلائل صلبة ومدهشة على عدم تأثر الحسابات الإسرائيلية والأمريكية بالمديح الإعلامي الظرفي، كما دللت على غياب المكتسبات الحقيقية سعوديا، حيث إن الردود الإسرائيلية تقوم على مبدأ أن إسرائيل لا تحارب عن الآخرين، ولا تخوض معارك للدفاع عن مصالحهم، بينما الردود الأمريكية على التنازلات السعودية لترامب والصفقات الضخمة وحتى المنح المالية، لم تنتج سوى المزيد من العنجهية الأمريكية ومضاعفة طلبات الدفع المالي من أجل الحماية وسوى ذلك، كما تبدى في التخلي عنها إزاء ضربة أرامكو العسكرية وما لحقها من سحب للقوات. في المقابل، فإن «خطاب التخلي» هذا، سوف يعزل السعودية عن محيطها العربي والإسلامي ويموقعها ذهنيا ووجدانيا إلى جانب إسرائيل. ولن يجد أصحاب «خطاب التخلي» أمامهم سوى شعوبا عربية ومسلمة، ما يزال وجدانها الوطني والديني والإنساني صلبا ومتوهجا مع فلسطين وضد إسرائيل، وبالتوازي، تحتقر موقفهم وتسترذله، وسوف يترتب على خطابهم هذا زيادة أعداء السعودية وخصومها. فهل هذه النتيجة، كما يتعقلها البراغماتيون، تصب في «المصلحة الوطنية السعودية»؟ حيث لا السعودية ظفرت حقا بالحليف الأمريكي-الإسرائيلي المرغوب أو «استفادت» من إسرائيل، ولا هي بقيت ولا نفوذها في دائرتها العربية الإسلامية. وأمامنا تجربتا مصر والأردن وسلامهما مع إسرائيل، تقدمان شاهدا دامغا يشير إلى أن فائدة البلدين من إسرائيل، هي أقرب إلى الصفر في كل المجالات، بل هي سالبة وعكسية إن أخذنا بالاعتبار التمدد والتوغل الأمني الإسرائيلي وميادين هذه الملفات ومنعكساتها. اندفاعة «خطاب التخلي» السعودي يجب أن يتأملها أصحاب الخطاب في السياق الإقليمي الأوسع. وفي هذا السياق حاولت السعودية خلال العقدين الماضيين على الأقل إيقاف نفوذ إيران في المنطقة، منذ ان أطبقت هذه الأخيرة على العراق وقد قُدم لها هدية على طبق من فضة، بعد حرب تدميره سنة 2003. وفي مواجهتها الطويلة مع إيران خسرت السعودية العراق أولا، ثم سوريا وتبعتها اليمن، بسبب الحروب والتحالفات الخاطئة والمدمرة التي أطلقتها أو التحقت بها. وفي ضوء تلك الخسارات المُتتالية، فإن السؤال التالي الذي يجب أن يتأمله بعمق عقلاء السعوديين؛ هو كيف يُمكن أن يُسمح لحفنة مُتوترة وضحلة التفكير من الكتاب والمغردين أن يدمروا ما تبقى للسعودية من دور ورصيد في المنطقة العربية شعبيا ورسميا، عبر الهجوم على فلسطين والفلسطينيين، وعبر السماح لـ «خطاب التخلي» بأن يتصدر الإعلام السعودي؟
ثانيا: الخطيئة التاريخية، وهذه تجسد مقدار التسطيح وقصر النظر التاريخي والسياسي، التي ينطوي عليها «خطاب التخلي»، خاصة في تعبيراته القصوى التي تمجد إسرائيل ودولتها وقادتها الذين أوغلوا في استباحة الدم الفلسطيني. أصحاب «خطاب التخلي» يتحسسون السطح البراق للمستنقع الصهيوني المتوحش، الذي لن تتردد تماسيحه في ابتلاعهم وابتلاع بلدانهم ضمن المشروع الإقليمي الأوسع حين تأتي اللحظة الملائمة. المحيط العربي لفلسطين بما فيه السعودية والخليج بأكمله ومصر وسوريا والعراق، يُنظر له إسرائيليا على أنه المجال الحيوي للمشروع الصهيوني، الذي يجب أن يبقى متخلفا ثقافيا وعلميا وتكنولوجيا واقتصاديا، بما يُحافظ على استمرارية تفوق إسرائيل وديمومة مركزها، واعتبارها القوة البارزة والقائدة في المنطقة. في هذا المجال الحيوي المتسع يقع شمال السعودية وبعمق يمتد في الجنوب الغربي إلى مكة والمدينة المنورة وخيبر، ضمن خارطة «من النيل إلى الفرات» التي تتصدر مواقع منظمات صهيونية إسرائيلية وامريكية، ويمكن بسهولة متابعتها على شبكة الإنترنت. يتوضح ذلك على سبيل المثال وبشكل لا يترك مجالا للشك في كتاب «العودة إلى مكة» لمؤلفه الأمريكي الصهيوني إيفي ليبكن، وفيه يقول إن السيطرة اليهودية على مكة والمدينة هي نقطة الحسم في الصراع بين الحضارة اليهودية-المسيحية والإسلام (Avi Lipkin, Return to Mecca, 2015).
أفكار السيطرة الصهيونية على المنطقة وقيادتها ليست تهويمات «نظرية المؤامرة» ولا ترتكز على عواطف وانفعالات، بل هي ما تقوله الوثائق وسلاسل الكتب والاتفاقيات والتصريحات المتواصلة، بدءا من نصوص التوراة وصولا إلى بنود «صفقة القرن» وما بينهما، وكلها تريد تكريس إسرائيل كقائدة للإقليم اقتصاديا وعسكريا. ولنتتبع هذه النزعة القيادية المتأصلة في المشروع الصهيوني للمنطقة برمتها والسيطرة عليها اقتصاديا وعسكريا ونفوذا، التي تستهدف السعودية والخليج كما تستهدف فلسطين ومصر والمنطقة:
إحدى المقولات المركزية التي ضمنها ثيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية، في مذكراته تشير بوضوح إلى أن الدولة اليهودية التي يطمح إليها في الشرق، سوف تؤدي دور الموقع المتقدم للغرب وتكون وظيفتها الوقوف في وجه البربرية والتخلف. احتلت هذه المقولة «القيادية» مكانا مركزيا في قلب المشروع الصهيوني ونظرته إلى المنطقة. في سنة 1941، وبعد توغل الصهيونية في فلسطين برعاية المستعمر البريطاني، وتصاعد الثورات الفلسطينية ضد الطرفين، أرسل الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت مبعوثا إلى فلسطين لدراسة وضع الصراع على الأرض هو الجنرال باتريك هيرلي، وطُلب منه تقديم تقريره إلى الرئيس مباشرة، بعيدا عن تعديلات وتأثير اللوبي اليهودي الذي كان مسيطرا على الخارجية ونافذا في الكونغرس منذ ذلك الوقت. لخص هيرلي تقريره المحفوظ في الأرشيفات الأمريكية في ثلاث نقاط: الصهيونية تريد فرض قيادة يهودية على كامل الشرق الأوسط على صعيدي السيطرة والاقتصاد. وتريد إقامة دولة يهودية في كل فلسطين وربما شرق الأردن. وتريد طرد السكان العرب من فلسطين إلى العراق (من كتاب Alan Hart, Zionism: The Real Enemy of the Jews, 2005, part 1, page 138). بعد قيام إسرائيل، وفي حقبتي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ارتكزت إحدى استراتيجيات إسرائيل في المنطقة على مبدأ «التحالف مع الأطراف»، وبناء عليه أقامت علاقات وثيقة عسكرية واستخباراتية واقتصادية مع إيران الشاه وتركيا، وأيضا مع بعض أكراد العراق وبعض الجماعات في جنوب السودان وإثيوبيا. والهدف من هذه العلاقات والتحالفات كان الضغط على منطقة القلب العربي وتفكيكها وإضعافها. وقد تم لها ذلك مع آخر السبعينيات بعد إنهاك مصر وإخراجها من الصراع، ثم تاليا لبنان عبر الضربات المتتالية التي انتهت باحتلال جنوبه، ولاحقا في التحريض الكبير على حربي العراق في سنوات 1991 و2003 من خلال الدور المركزي المُثبت توثيقيا، سواء عبر اللوبي الصهيوني في واشنطن او لوجستيا وميدانيا (هذا طبعا من دون تبرئة صدام حسين وقراراته الهوجاء واحتلاله الكويت). احتاجت إسرائيل إلى تدمير المنطقة وتسويتها بالأرض كي تظل هي وحدها الأقوى والأكثر تفوقا، ليس عسكريا فقط (عبر التحالف العسكري الاستراتيجي مع أمريكا) بل واقتصاديا وعلميا وقياديا.
على الصعيد النظري، أعاد شمعون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق التأصيل لفكرة قيادة إسرائيل للمنطقة ولو بشكل موارب وبراق في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» الذي صدر عام 1993، وفيه تموضعت السعودية والخليج كأسواق للاقتصاد الإسرائيلي. منطقة الخليج برمتها والسعودية في قلبها لم تكن في هذا المشروع سوى الصيد الثمين الذي لا بد من الحصول عليه والتهام ثرواته. ديفيد بن غوريون وغولدا مائير، قادة إسرائيل الذين تم تبجيلهم عبر بعض الأقلام السعودية الطفلية، كتبوا بوضوح كالشمس إن شرط بقاء إسرائيل قوية، هو إضعاف كل الدول العربية وتفتيتها، ومشروع التفتيت يضع السعودية على رأس القائمة. ففي سنة 1982 أصدر مركز دراسات إسرائيلية ما وصفه «استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات» اشتهرت لاحقا باسم «خطة ينون»، تبعا لمؤلفها عوديد ينون الذي عمل آنذاك مستشارا لشارون وخدم في وزارة الخارجية. اقترحت الاستراتيجية تلك على الحكومات الإسرائيلية المُتلاحقة العمل على ضرورة تقسيم الدول العربية وتفتيتها؛ لأن هذا التفتيت هو الضمان الأكبر لمُستقبل إسرائيل. تضمنت توصيات الخطة العمل على تقسيم مصر إلى دولة مسلمة وأخرى قبطية، لبنان إلى دويلات طائفية، والعراق إلى ثلاث دول، واحدة سنية، وثانية شيعية، وثالثة كردية، وفصل جنوب السودان وغربه إلى دويلات إثنية، والجزيرة العربية، كما تصف الاستراتيجية، إلى أجزاء متنافرة. ولاحقا في 28 أيلول/سبتمبر 2013 نشر الملحق الأسبوعي لصحيفة نيويورك تايمز خارطة لما توقعت الصحيفة أن تؤول إليه المنطقة من تقسيم، وهو تقسيم لم يكن بعيدا عن تصورات «خطة ينون»، وتضمنَ تقطيع السعودية إلى خمس دويلات في شرق، وجنوب، ووسط، وغرب وشمال الجزيرة. المنطقة الشمالية، وكما تشير إليها كتب وأدبيات المنظمات المسيحية الصهيونية، هي الجزء الذي يجب ان يُضم إلى إسرائيل الكبرى تبعا لنبوءة التوراة التي تصرح بحدودها، وهي من ضفاف النيل إلى الفرات بما فيها شمال الجزيرة العربية. هذه الاستراتيجيات بعيدة المدى هي التي يجب أن تكون في قلب اهتمامنا جمعيا، سعوديين، وفلسطينيين، وعربا، وليس المناكفات الشعبوية التي تخدم تلك الاستراتيجيات بالجهل وقصر النظر.
تنطلق التنظيرات الصهيونية، وما أشير إليه أعلاه مجرد عينة منها، دوما وأبدا من خليط عنصري يجمع النظرة الاستعمارية التقليدية وسيلا عريضا من الاستبطانات التوراتية الكثيفة، وكلاهما يقومان على نظرية السيد والعبيد التي ترى أن شعوب المنطقة ليسوا سوى أجراء لدى السيد الإسرائيلي المسيطر، المؤيد توراتيا واستعماريا وعسكريا وتكنولوجيا. شعوب المنطقة ودولها مفروض عليهم جميعا سقف مُحدد تبعا لهذه النظرية، وتحت ذلك السقف تتلخص وظيفتهم في أمرين: تقديم العمالة الرخيصة للاقتصاد والآلة الإنتاجية الإسرائيلية، وفتح الأسواق الاستهلاكية والشرائية لما تنتجه تلك الآلة، وفي الحالتين يجب إبقاؤهم في وضع اللهاث الدائم وراء إنتاجات السيد الإقليمي المُسيطر، بحيث يظلون يركضون وراء إنجازاته وإنتاجاته، ويخافون جبروته العسكري طبعا، ويسلمون له القيادة.
على ذلك، فإن ما يجب أن يتعقله الجوار العربي لفلسطين بما في ذلك السعودية، هو حقيقة وقوف فلسطين والفلسطينيين في خط الدفاع الأول (عمليا وبراغماتيا!) عن العرب وعن السعودية نفسها، وإذا ما التهمت الصهيونية فلسطين كاملة وانتهت منها، فإنها سوف تتفرغ للجولات التالية من توسعاتها.
ثالثا: الخطيئة القيمية، وهذه مرتبطة بفكرة ترك العدالة ومناصرة المظلوم والقضايا العادلة، والاصطفاف بوعي أم بدونه إلى جانب المجرم والجلاد، وهي إحدى سمات «خطاب التخلي» عن فلسطين وقضيتها. تتمحور هذه الخطيئة في تصيد أخطاء وسلوكيات بعض الفلسطينيين، أو حتى الكثير منهم، أو اقتباس مقولة هنا أو تغريدة هناك لبعض الفلسطينيين، الذين لا تقل رعونتهم عن رعونة قرنائهم من بعض السعوديين، واستخدام هذه المقولات لتفريغ نقمة على فلسطين وعدالة قضيتها، والانتقام من ذلك كله عبر تصريحات تؤيد إسرائيل وتتغزل بها. في هذه الاقتباسات التي يوظفها أصحاب «خطاب التخلي»، هناك شتم وتعميم متوتر صادر عن أفراد فلسطينيين بحق السعودية والسعوديين، يتذرع بالدفاع عن فلسطين في وجه الاتهامات العديدة وسوى ذلك، وكله مرفوض وسقيم ولا يجب البناء عليه أو تعميمه. جولات الشتم المُتبادل هذه بين أفراد من الطرفين ينتمون في غالبيتهم إلى نفس مربع الضحالة، تحقق عمليا ما تريده إسرائيل من تسميم للعلاقات بين الشعب الفلسطيني والشعب السعودي، بل والشعوب العربية كلها. لا يحتاج أي عاقل للتذكير بأن أصوات الرعونة من الطرفين لا تعبر عن موقف ملايين الفلسطينيين والسعوديين من بعضهم البعض. مع ذلك، من الضروري هنا التوقف عند مسألة مهمة هي خطيئة الموقف القيمي الذي يعلن التخلي عن عدالة قضية معينة؛ لأن بعض أفراد تلك القضية تافهون. طبعا هناك فلسطينيون تافهون وهناك من جندته إسرائيل عميلا لها، وبعضهم قتل عقابا له على عمالته، وكلهم لفظهم الشعب إلى مزابل التاريخ. وكما هي الحالة في كل شعب من شعوب الأرض، هناك افراد تافهون وسفلة وعملاء تشهد عليهم السجون المحلية في كل بلد، وفي السعودية كما في غيرها. لكن وجود هذه العينات لدى شعب لديه قضية عادلة، لا يؤثر في جوهر عدالتها. هناك أفارقة شاركوا الغزاة الأوروبيين في استرقاق بني جلدتهم، وسهلوا عمليات اقتناص أشقائهم وبيعهم إلى تجار العبيد. هل هذا معناه أن تجارة العبيد أصبحت مُبررة، وأن عدالة النضال ضد العبودية انتقصت؟ هناك ألوف من السعوديين انخرطوا في حركات إرهابية في طول العالم وعرضه، من القاعدة إلى داعش وغيرها، فهل هذا يعني مثلا عدم الوقوف مع عدالة الموقف السعودي الرافض للتعميم على الشعب كله، وقبول طروحات المحافظين الأمريكيين وحلفائهم المسيحيين الصهيونيين إزاء السعودية وشعبها (وكان أحد متطرفي أولئك المحافظين قد اقترح ذات مرة ضرب السعودية بالقوة النووية، للتخلص منها ومن إرهابها دفعة واحدة، على حد تعبيره). في كل حالات الاستعمار والاحتلال، كان هناك أفراد يتعاملون مع المُحتل، ومن أشهر الحالات في العصر الحديث تعاون عشرات الألوف من الفرنسيين مع الاحتلال الألماني النازي لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، فهل قاد ذلك إلى سحب التأييد لعدالة جهود ديغول في تحرير بلده من هتلر؟ في وسط الأجواء المسمومة التي يثيرها «خطاب التخلي» عن فلسطين؛ لأن هذا الفلسطيني أو ذاك قام بكذا أو كذا، يحتاج المرء إلى إعادة التوكيد على أمور ربما هي من البدهيّات. خلاصة المسألة هنا، هي أن أسوأ ما قد ينحدر إليه خطاب معين، هو الاصطفاف مع الجلاد والمجرم بسبب خطأ هامشي، أو حتى غير هامشي ارتكبته الضحية. إن ذلك يعني أن نبرر لمجرم يسطو على بيت ويقتل أصحابه ويسرق ما فيه ويحتله، لأن واحدا من أفراد العائلة التي تملك البيت وتسكنه، يتنمر على أخيه الصغير أو يسيء الخلق تجاهه.
(القدس العربي اللندنية)