كتاب عربي 21

حتى لا يؤدي تجديد الدين إلى إلغائه

1300x600

يوسف الصديق مثقف تونسي يتمتع بجرأة عالية، لا يمكن أن تجالسه أو تحاوره دون أن ينقل إليك حمى الأسئلة المستفزة والمثيرة للشكوك والقلق المعرفي. عرفته زميلا عندما عمل بصحيفة لابريس الناطقة باللغة الفرنسية، ثم عرفته صديقا في الساحة الثقافية. في حوار له مع مفتي القدس على قناة فرنسا 24، فوجئت به يدفع نحو التخلي عن العبادات الجماعية، بحجة أن الخوف من انتشار العدوى بفيروس كورونا قد جعل المؤسسات الدينية الإسلامية تقبل وتجيز التوقف عن أداء صلاة الجمعة وربما صلاة العيد، وتبرر أداء الصلوات الخمس في البيوت وعدم فتح المساجد أمام العموم، بما في ذلك أداء صلاة التراويح.

بناء على هذه الحالة الوبائية الموضوعية التي شملت العالم، وهذا الاجتهاد الاستثنائي الذي دفع نحو إلغاء موسمي العمرة والحج وإغلاق الحرم المكي، تساءل يوسف الصديق حول إمكانية أن يتقدم العلماء والفقهاء بخطوة أخرى نحو الأمام، وذلك بالإفتاء بجواز التخلي عن العبادات الجماعية، والاكتفاء بالعبادة الفردية لتأكيد أن الدين هو علاقة شخصية بين العبد وربه.

هذا الموقف ذكرني بنقاش سابق مع الدكتور عبد المجيد الشرفي الذي تربطني به علاقة شخصية قديمة. أثار بدوره موضوعا شبيها بما طرحه يوسف الصديق، حين اعتبر أن من حق المسلم أن يجتهد في العبادات، بما في ذلك عدد الصلوات وعدد ركعاتها، وكيفية أدائها. وقد ناقشته في هذه المسألة التي لم أقتنع بها ولا بأهمية طرحها.

صحيح الخطاب الديني يمر بأزمة هيكلية تعود إلى قرون طويلة، وأن هناك حاجة ملحة لمراجعة الأساليب والمناهج المعتمدة في تبليغ الدين إلى المؤمنين به، سواء داخل المساجد أو خارجها، لكن ذلك لا يبرر القول بأن المراجعة يجب أن تشمل طقوس العبادة لأن مسارا من هذا القبيل من شأنه أن يؤدي إلى تقليص مساحة التدين ووضعه في نطاق ضيق جدا، وتحويله إلى شعور ذاتي، خفي، لا يراه ولا يلمس آثاره أحد.

 

ذلك لا يبرر القول بأن المراجعة يجب أن تشمل طقوس العبادة لأن مسارا من هذا القبيل من شأنه أن يؤدي إلى تقليص مساحة التدين ووضعه في نطاق ضيق جدا، وتحويله إلى شعور ذاتي

الدين عموما، والإسلام خصوصا، وثيق الصلة بحياة الناس وحياتهم الاجتماعية. وأهم مظهر لذلك هو طقوس العبادة التي يمارسونها بشكل فردي أو خاصة جماعيا. وعندما تزور بلدا وتسمع الآذان أو ترى مسجدا تعرف بأنك في بلد شعبه مسلم، أو تقطنه أقلية مسلمة، أو مر به الإسلام في مرحلة من مراحل التاريخ.

كما أن الممارسة الجماعية لبعض العبادات مثل الصلاة والحج قد أسهمت (ولا تزال) في حماية الهوية الدينية، وضمنت استمرارية الأمة ومعتقداتها، وحافظت على جانب حيوي من العلاقات الاجتماعية والروابط الثقافية. وهو جانب لا يمكن التقليل من أهميته في مرحلة تاريخية صعبة ومعقدة تكاد الأشياء تفقد فيها المعنى والدلالة. فالعبادات في كل دين لها أكثر من هدف وتقوم بأكثر من دور، لهذا يمكن تعميق النقاش حول أبعاد العبادات وتأثيراتها المحتملة على الأفراد والمجتمع وحركة القيم، لكن من المستحيل إلغاؤها والتخلي عنها نهائيا.

لا يعني هذا أنه لا يحق لأي مثقف أن يطرح ما يريد من أفكار، أو أن يتساءل عن أي عقيدة أو أي عبادة في الإسلام أو غيره، لكن يفترض أن يؤدي ذلك إلى وضع أفضل، وأن تعكس تلك الدعوة احتياجا فعليا فرضه الواقع الموضوعي للمجتمعات.

ليس كل ما يقال داخل المساجد مقبول وإيجابي. قد تحصل أحيانا كوارث، وتعمل حكومات على تكريس خطاب ديني متخلف يعمل على مدح الدكتاتوريات وتبرير سلوك المستبدين وجرائمهم، لكن ذلك ليس مبررا كافيا للتخلي عن المساجد وأدوارها. كما أن صيغة إمام يخطب من فوق منبر، ومنع السامعين له من الاعتراض عليه أو مناقشته في ما يقوله خلال خطبة الجمعة؛ صيغة من شأنها أن تكرس أساليب الطاعة والخضوع، لهذا اعترضت امرأة على عمر بن الخطاب وهو إمام، لكن ذلك لا يعني أن نحول مؤسسة الجامع إلى برلمان مفتوح.

تبقى العلمانية اختيارا هاما ومفيدا، شريطة أن تستوعب الدين وألا تعمل على إلغائه، أو تهميشه. فالعلمانية تبدأ بفصل الدين عن الدولة، وفي ذلك إنقاذ للدين من حسابات الدولة واستبداد رجالها في كثير من الحالات. لكن هناك من لا يقف عند هذا الحد، وإنما يتقدم خطوات أخرى نحو الأمام، فيطالبون بفصل الدين عن التشريع والقانون، وفصل الدين عن الشأن العام، وفصل الدين عن الأخلاق، وأخيرا فصل الدين عن العبادات.

 

هذا المسار وإن فشل تاريخيا، إلا أنه يجعل المتدينين في حالة خوف على معتقداتهم وعلى حرياتهم الدينية، ويؤدي إلى صراعات وتوترات داخل المجتمع

هذا المسار وإن فشل تاريخيا، إلا أنه يجعل المتدينين في حالة خوف على معتقداتهم وعلى حرياتهم الدينية، ويؤدي إلى صراعات وتوترات داخل المجتمع، في حين أن العلمانية الحقة جاءت لتحمي هذه الحريات وتقننها، وتجعل منها ثابتا من ثوابت المجتمع الديمقراطي، وأصلا من أصول منظومة حقوق الإنسان. وعلى هذا الأساس نص الإعلان العالمي في فصله الثامن عشر على أن "لكل شخص الحق في حرية التفيكر والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته". ولم يقف النص عند ذلك، وإنما أكد أيضا على أن لـ"كل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة".