خلفَ قضبان المحتلّ والمستبدِّ آسادٌ ترسفُ في القيدِ، وفي عتمةِ الزّنازين ترتيلٌ خفيٌّ ينير المكان، وعلى جدرانِ السّجن تُرسمُ لوحةُ الثّبات الأشمّ، وفي غرف التّحقيق يعزف الأبطالُ لحنَ النّصر المؤزّر.
إنّهم
الأسرى والمعتقلونَ الذين فقدوا حريّتهم لأجل حريّتنا وكرامتنا يربضون في الزنازين بعيدا عن العدسات وآلات التصوير، ويتساءلون وحقّ لهم ولكلّ حرّ أنْ يصرخَ عاليا: أمَا آن للقيدِ أن ينكسِر؟!
تحريرُ الأسرى بأيّةِ وسيلةٍ واجبٌ عل الأمّة جمعاء
وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك الواجب في أمر صريحٍ، والأمر كما تعلمون للوجوب، وذلك في قوله كما في صحيح البخاري: "فكّوا العاني"، والعاني هو الأسير.
وقد علم المسلمون قيمة استنقاذ الأسرى من أيدي أعدائهم فجعلوه على رأس أولوياتهم واهتماماتهم؛ فها هو الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: "لأن أستنقذَ رجلا من المسلمين من أيدي المشركين أحبُّ إليّ من جزيرة العرب".
وقد تضافرت أقوال علماء المسلمين وأئمتهم في الدّلالة على أهميّة تحرير الأسرى وبشاعة خذلانهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا سُبيتْ امرأةٌ في المشرق وجبَ على أهل المغرب فكُّ أسرها"؛ أي إنّ على الأمة كلّها مشرقها ومغربها التحرُّك لتحرير أسيرة وقعت بين أيدي أعداء الأمّة، فما بالنا بعشرات الأسيرات وآلاف الأسرى في
سجون الصهاينة والطّغاة المستبدّين؟!
بل إنَّ الإمام النووي عدّ وقوعَ مسلمٍ ومُسلمَين في الأسر في حكم العدوان العسكري على بلاد المسلمين، ممّا يوجبُ النّفيرَ لردّ العدوان وفكاك الأسرى، يقول رحمه الله تعالى: "ولو أسروا مسلما أو مسلمَين فهل هو كدخول دار الإسلام؟ وجهانِ أصحّهما نعم، لأنّ حرمته أعظم من حرمة الدّار".
وقد صرّح بذلك سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام رحمه الله تعالى إذ يقول: "وإنقاذ أسرى المسلمين من أيدي الكفّار من أفضل القربات".
وعندما يعلّق الإمام القرطبيّ على الآية الخامسة والسبعين من سورة النساء وهي قوله تعالى: "وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرا"، يقول: "وتخليصُ الأسارى واجبٌ على جميع المسلمين إمَّا بالقتال وإمَّا بالأموال؛ وذلك أوجبُ لكونِها دونَ النّفوس إذ هي أهون منها، قال مالك: واجبٌ على النّاس أن يُفْدوا الأسارى بجميع أموالهم؛ وهذا لا خلاف فيه".
وما أعظم قول الإمام ابن العربيّ المالكي في كتابه أحكام القرآن في معرض حديثه عن الأسرى المستضعفين من المسلمين:
"إنّ الولاية معهم قائمة، والنُّصرة لهم واجبةٌ بالبدن بألاّ يبقى منَّا عينٌ تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم؛ إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذلَ جميع أموالنا في استخراجهم، حتّى لا يبقى لأحدٍ درهم؛ كذلك قال مالك وجميعُ العلماء، فإنّا لله وإنَّا إليه راجعون على ما حلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أمر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والعدّة والعدد، والقوّة والجلَد".
تفعيلُ قضيّة الأسرى وتذكيرٌ الأمّة بها على الدّوام
إنّ تفعيل قضيّة الأسرى في سجون الاحتلال الصّهيونيّ والمعتقلين في سجون القهر والظلم ليس مجرّد نشاط إعلاميّ أو إنسانيّ تقتضيه الأخلاق الإنسانيّة وحسب؛ بل هو قبلَ ذلك كلّه واجبٌ شرعيّ يرسم الإسلام معالمه بوضوح.
بعد وقوعِ عددٍ من المسلمين أسرى في أيدي المشركين كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقنت داعيا لهم في صلواته؛ فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الرّكعة الآخرة يقول: اللّهم أنجِ عياش بن أبي ربيعة، الله أنجِ سلمة بن هشام، اللّهم أنجِ الوليد بن الوليد، اللّهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين".
فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يذكر أسماء الأسرى في دعائه وقنوته، ويعدّدهم بأسمائهم على مسامع المصلّين في الصّلوات التي هي أعظم موقف للمسلم بين يدي الله تعالى.
ومن اللّافت أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يستحضر أسماء الشّهداء في قنوت النّوازل، لكنّه كان يستحضر أسماء الأسرى وذلك كي تبقى أسماؤهم حاضرة ماثلة في أذهان ووعي وتفكير الأمّة جمعاء، وتبقى صورتُهم وهم في القيد تستثير وتحرّض همم المسلمين للتحرّك لفكّ أسراهم، ولأنّ قضيّتهم هي الواجبُ الحاضر، أمّا الشّهداء فقد قضوا نحبهم وغدوا فرحين عند الله تعالى بما آتاهم.
وفي استحضار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأسماء الأسرى في قنوت النّوازل والدّعاء لهم جملة وفرادى؛ رسالة مهمّة إلى وجوب حضور الأسرى بأسمائهم الشّخصيّة وقضيّتهم الكليّة في دعواتنا وخلواتِنا وصلواتِنا، وكذلك في كلماتنا ووسائل إعلامنا؛ فتحريض الذّاكرة المسلمة على الدّوام بتذكيرِها بوجود الأسرى في القيد واجبٌ شرعيّ وهديٌ نبويّ.
إنشاءُ الأوقاف الخاصّة بتحرير الأسرى والإنفاق في شؤونِهم وقضاياهم
من الأمور التي دعا إليها الإسلام ورسّخها العلماء والفقهاء في كتبهم؛ إنشاءُ الأوقاف الخاصة بتحرير الأسرى لجمع الأموال والإنفاق عليهم وعلى قضيّتهم، ودفع الغرامات المترتبة وأجور الدّفاع عنهم وتكاليف تفعيل قضاياهم في المحافل المختلفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات".
وقد نصّ كثيرٌ من الفقهاء على جواز دفع الزّكاة الواجبة لفكّ الأسرى وتحريرهم والدّفاع عنهم؛ فتكون الزّكاة إحدى أبواب تمويل هذه الأوقاف الخاصّة بقضيّة الأسرى.
يقول الإمام البهوتي الحنبلي في كشّاف القناع: "ويجوز أن يفدي بها (أي الزكاة) أسيرا مسلما في أيدي الكفار، نصَّ عليه؛ لأنه فكُّ رقبة الأسير، فهو كفكِّ رقبة العبد من الرّقّ؛ ولأن فيه إعزازا للدّين، فهو كصرفه إلى المؤلفة قلوبهم، ولأنه يدفعه إلى الأسير، كفكِّ رقبته من الأسر، أشبه ما يدفعه إلى الغارم لفكِّ رقبته من الدّين".
وجاء في الموسوعة الفقهيّة عند الحديث عن مصرف "وفي الرّقاب": "أن يفتدي بالزكاة أسيرا مسلما من أيدي المشركين، وقد صرح الحنابلة وابن حبيب وابن عبد الحكم من المالكية بجواز هذا النوع؛ لأنه فكّ رقبةٍ من الأسر؛ فيدخل في الآية، بل هو أولى من فَكّ رقبة مَنْ بأيدينا".
رعايةُ أسر الأسرى وعائلاتهم ماديّا ومعنويّا
وإنّ من أوجب حقوق الأسرى على أمّتهم رعاية أهلهم وأبنائهم بما يحقق لهم العيش الكريم والرعاية الحقيقة كفالة وتربية لأبنائهم وصيانة لهم، وفي ذلك شدٌّ من عَضُدِ الأسير في سجنه وشعوره أنّ الأمّة لا تتخلّى عن مجاهديها وأبنائها. ذكر ابن عساكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى المسلمين الأسرى في القسطنطينية: "أمّا بعدُ فإنّكم تَعدّون أنفسكم الأسرى (ومعاذَ الله) بل أنتم الحبساء في سبيل الله، اعلموا أنّي لستُ أقسم بين رعيتي إلّا خصصتُ أهلكم بأكثر من ذلك وأطيبه".
فهذه بعضُ الواجبات الشرعيّة التي علينا استحضارُها تطبيقا وتذكيرا على الدّوام تجاه الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الصّهيونيّ والاستبداد والطّغيان، وسيسألنا الله تعالى عنها؛ فلنعدّ للسّؤال جوابا.