عندما أنظر إلى الشاشات وأشاهد المستشفيات المكتظة بالمصابين، وأرى استصراخ أعداد كبيرة من الناس تريد النجاة، وأسمع التقارير التي تتحدث عن عجز كبير في المنظومات الصحية حول العالم، تعود بي الذاكرة إلى عام 2014 في قطاع غزة.
في مجمع الشفاء الطبي أكبر مستشفيات القطاع
المحاصر، كانت تأتي عشرات الحالات في دقائق إلى المستشفى، أحيانا، وذلك بعد ارتكاب
الاحتلال مجزرة بشعة بحق السكان، فتعجّ ممرات المشفى بالمصابين والدماء، وما زال
في خلدي وأذني صدى كلمات امرأة كبيرة في السن، حاولت أن تمسك يدي يومها أثناء
نقلها على سرير المشفى، وهي تقول مستغيثة: «الله يخليك بدي أعيش»، كانت حالتها
حرجة، وجرحها كبير وغائر، يصعب وصفه!
تلك أيام صعبة لم تكن تكفي الكوادر الطبية
الأساسية، ومن تطوّع معها لإنقاذ وعلاج جميع الحالات، أو تقديم الرعاية الكاملة
لها، فالمأساة أكبر من كل القدرات، في ظل إمكانية شحيحة ومحدودة للغاية، لكن صمود
الأطباء -شبابا وشيوخا- وكفاحهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وعلاج من يمكن علاجه كان
عظيما.
كان الأطباء يبيتون في المستشفيات لأسابيع
منقطعين عن أهلهم، هم في قلق، وأهلهم كذلك، كل لا يدري أي منهم ماذا يكون مصير
الآخر، فلم يكن العدوان الإسرائيلي يستثني من نيرانه لا مشفى ولا منزل ولا سيارة
ولا مقهى ولا أي شيء، كل شيء كان مستهدفا بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
لم يكن هذا حال الأطباء فقط، بل كل من كان
يعمل ويتحرك في ذلك الوقت من رجل الأمن وحتى سائق الإسعاف، والصحفي الذي يسعى
لتوثيق الجرائم ونشرها للعالم، كلهم كانوا مستهدفين، وعاشوا بعيدا عن أهليهم
لأسابيع بانقطاع تام، فقد كانت الحركة بين المدن والمناطق خطرة للغاية، وأحيانا كل
ما يتحرك كان يقصف من طائرات الاحتلال، إنه فيروس من نوع آخر كان يحوم في الأجواء.
في تلك الفترة فُرض على الفلسطينيين حجر قسري
وقهري في المكان الذي يخلو من الملاجئ والأماكن المحصنة، كان الناس يتحصنون في
بيوتهم، إلا أن فيروس القصف اللعين كان يهاجمهم في أوقات اجتماعهم داخل المنزل، فكثيرا
ما استهدفت العوائل وقت اجتماعها على مائدة الطعام، خصوصا في رمضان وقت الإفطار
ووقت السحور.
أما العزل فلم يتوقف إلا قليلا خلال السنوات
الأربعة عشرة الماضية، فقد كانت المعابر مغلقة، والميناء مدمرا، أما مطار غزة فقد
أصبح أثرا بعد عين، نحو 2 مليون إنسان ظلوا معزولين عن العالم سنوات طويلة.
استمرار آثار «كورونا» فترات طويلة من شأنه أن
يترك آثارا سلبية على كل مناحي الحياة، ويجعل من العالم مكانا «يصعب العيش فيه»،
وهو ما كان متوقعا لغزة في عام 2020، حسب تقرير وتقدير صدر عن الأمم المتحدة.
نأمل ألا يطول أمد وباء كورونا، فنحن نعلم
جيدا معنى الألم جراء ذلك، ونتمنى أن يرحل قريبا، فمن يدرك معنى الفقد والقهر
والعجز وقلة الحيلة أمام المأساة يعرف كم يكون استمرار ذلك مؤلما وقاسيا، سينتهي،
أملنا بالله أنه سينتهي، فلكل داء دواء، ونتمنى أن يبتكر العالم أيضا لقاحا وعلاجا
للحصار والاحتلال.
عن صحيفة "العرب"
القطرية