قضايا وآراء

كورونا يُعرّي هذا الكوكب على حقيقته

1300x600
بعدما أُصِيبَ الإنسان بنرجسيّة عمياء لا حدود لها، لتفوّقهِ العلمي والتكنولوجي، وبعدما حلّ جنونُ العظمة ضيفا ثقيل الإقامة على عقول الرؤساء والزعماء وأصحاب القرار وصُنّاعه في هذا الكوكب، وبعدما أصبح الجبروت يدفعهم إلى قتل الإنسان برصاصة ذاتِ ثمن بخس، وحصارِ دول ومناطق، والهيمنة والسيطرة والسيادة، وبعد شُيوع مصطلح "كبسة زر" في العديد من المجالات، الذي دفع بالإنسان إلى حدّ العنجهية والحسبان بالخلود، بعد كل ذلك جاء فيروس كورونا، ليعبر القارات، ويخترق الحدود والحواجز والأنظمة والمطارات والقصور الملكية، ويدخل رغم جدران السجون السميكة التي شيّدها الخبراء، ويصل إلى قصور الضيافة والملوك والوزراء، ويغيّر تركيبة هذا العالم الذي لا يعترف إلا بالقوي، ويُجبِر الأسياد على اتخاذ قرارات جديدة لم تُتخذ سابقا، بل ويصل أيضا إلى سُدّة البيت الأبيض الذي انحنت أمامه طواغيت هذا العالم، ومُنِعَت الحشرات والفراشات من التحليق فوقه..

فيروس كورونا يكشف كذلك الاتحاد الأوروبي على حقيقته الواهنة، وبأنّ هذا الاتحاد المزعوم ما هو إلا بيتٌ واهنٌ كبيت الأرملة السوداء، وهذا ما قاله الرئيس الصربي مؤخرا، عندما وصف الاتحاد الأوروبي بأنه مجرد خرافة وحبر على ورق، وذلك بعدما امتنعت الدول الأوروبية عن مساعدة بلاده في التصدي لجيش كورونا الزاحف والذي لا يُرى لا بالعين ولا بالمجهر ولا بأيةِ عدسة، وليس له طعم ولا لون ولا رائحة سوى رائحة الأنانية.

فاليوم تبدو الدول الأوروبية مجرد بقع صغيرة على خارطة العالم، مفككة، هشة، متناحرة عند أول مُصاب جلل، فالحدود أغلقت، والتراشق الإعلامي في أوجِهِ هناك، وطبيب الأسرة لم يعد قادرا على استقبال مرضاه. وبلجيكا على سبيل المثال راحت تفرض غرامات جنونية على السيارات الهولندية التي تعبر حدودها لتعبئة الوقود، تصل إلى أربعة آلاف يورو، وكأن هذه السيارات محمّلةٌ بأطنان كورونا. والدنمارك كذلك سارت على ذات المنوال، والعديد من المسؤولين الأوروبيين راحوا يصارحون شعوبهم بأنهم سوف يموتون، ولا مفرّ لنا من عزرائيل الموت، وليس بمقدورنا أن نفعل لكم شيئا سوى تجهيز التوابيت أو تشغيل أفران المحارق في الدول التي تعتمد على حرق جثث الموتى..

دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تكن بعيدة المنال عن جيش كورونا أيضا.. هذه الدولة التي مجّدها وطبّل لها الكثيرون، وقالوا بالفم الملآن: "إذا وصل كورونا إلى إسرائيل فأبشروا بالحل السريع"، في محاولة منهم لتمجيدها وتقديمها على أنها الدولة الأولى في هذا العالم، لكنّ فيروس كورونا الذي لم يفرق بين مسلم ومسيحي، وبين يهودي وملحد، أقضّ مضاجعهم.

والأنين الإسرائيلي كان واضحا في صحيفة هآرتس الإسرائيلية التي أوردت مقالا للصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي، الذي اعترف بأنّ الإسرائيليين يتذوقون اليوم طعم جهنم الذي أذاقوه للفلسطينيين على مرّ السنين، وبأنّ تل أبيب سوف تصبح مثل جنين، والمدن الإسرائيلية سوف تصبح مثل قطاع غزة المحاصر. وقال حرفيا: "فكروا بغزة، 14 عاما متواصلة لم يرَ فيها جيل الشباب في حياتهم طائرة مدنية حتى في السماء، ولا أحدٌ من البالغين كان في مطار، أو في عطلة خارج البلاد، بل إنهم لم يحلموا بذلك". واليوم سوف تعيش دولة الاحتلال الأمر ذاته تحت حجر طوعيّ..

أمّا عربيّا، فلا يوجد شيء اسمه وحدة عربية كي يستهدفها فيروس كورونا، ولكنّ هذا الفيروس يعرف جيّدا من أين تُؤكَل الكتف، وكأنه يستهدف كل دولة بما كانت تقدّسه وتعتبره خطا أحمر، ولهذا راح فيروس كورونا يمنع العرب والمسلمين من التوجه إلى المساجد، ولأول مرة تُغلَق المساجد والحرم المكي الذي بكاه الكثيرون، بعدما بدا خاليا من المعتمرين، وراح صوت المؤذن يصدح عبر مكبرات الصوت في العديد من العواصم الإسلامية: "صلّوا في رحالكم"، في مشهد لا يبعث إلا على الحزن والخيبة ويدفع المؤمنين وغير المؤمنين إلى التضرع إلى الله الذي لم يبقَ غيره قادرا على إيقاف جيوش كورونا الزاحفة، وذلك من خلال "كن فيكون" وليس من خلال "كبسة زر"، التي لا تتفق مع الأولى سوى بحرف الكاف..

ما تعلّمته جيدا هو أنّ الله تعالى عندما جبلَ هذا المخلوق المُسمّى إنسانا، جبله على الضعف، وسيبقى كذلك مدى الحياة، وبأنه مهما تخيل الإنسان نفسه قويا ومسيطرا وعظيما، فإنه في نهاية المطاف سوف يخضع لقول الله تعالى: وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفا..