في العام التاسع لثورة الشعب السوري، التي تمر ذكرى اندلاعها هذه الأيام من شهر آذار، وهو يحمل معنى أو معاني عديدة للبعض، إلا أنه يبقى تاريخ انعطاف الحياة برمتها للسوريين. ربما معنى انعطافه دورة الحياة نحو أسوأ الفصول، وأكثرها تجلياً وتعميقاً لمعنى قهر الكرامة الإنسانية وإذلالها، ووضعها في مسار الكمون الذي فصلته
الأسدية منذ خمسة عقود للمجتمع السوري، الذي حاول الخروج منها بسلمية مطالبه العادلة والمشروعة، بكلفة باهظة من التضحيات، وبرد فعل غير مسبوق من الجرائم والمجازر؛ أرقامها وشواهدها ستبقى صادمة ومرعبة ومخجلة للضمير الإنساني.
المتتبع لأي أثر عند أدراج أقبية التعذيب الأسدية؛ قطرات الدم، والتحري عن جثث عشرات الآلاف لضحايا لم تكتب قصصهم بعد، وللملايين المشردين الذين تحاصرهم مواقف الخذلان والعار، يدرك ببساطة الحسابات أي عدو ثار عليه السوريون، وأية أهمية تشكلها وظيفة النظام الباطشة بهم "لنفاق المجتمع الدولي". تسعة أعوام سُمح له بقتل وجرح مليون ضحية، وتدمير المدن وأريافها وحواضرها وأوابدها، وتهجير نصف الشعب، للحفاظ على الوظيفة المحمية باحتلال راسخ في هضبة الجولان، وآخر مستورد قايضه بمصالح التطهير العرقي، والقواعد العسكرية والعقود الاقتصادية، مقابل استمرار هرواة البطش بالسوريين لتمكنه من إعادة السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد.
السيطرة كانت محققة للأسد قبل العام 2011 على كامل الجغرافيا السورية، وكانت محملة بعقود من الفساد والقمع والقهر والظلم.. برقت للسوريين في يوم من أيام آذار/ مارس ثورتهم، التي لم تنفع معها عقود التزوير والقمع المقيم بين جنبات المجتمع، فلم يمنع كل ذلك الربيع من القدوم رغم أنف الأبد المتزعزع من تحته، فإذا كانت أسباب عقود الأسد الأب وجرائمه المؤسسة لنسل الأبد قد فاضت بثورة على نسله، فإن واقع اليوم مع سيطرة وحشية زاحمت مكانها بجانب النازية والفاشية منتصف القرن الماضي ليكون للأسدية لون خاص في العصر الحديث لمعنى التوحش؛ من البديهي أن تتعاظم الأسباب لسقوط أوهام الطاغية مقارنة بأسباب ما قبل آذار/ مارس 2011 على كافة المستويات، حتى لو حظي الطاغية بكل شرعيات المحتلين، واستعان بعضلاتهم وعصاباتهم وتطميناتهم. فهي أسباب موجبة البداهة لنهاية عصره، والسنوات الحالكة التي أسست لوهم الدفاع عن مذابح "أبدية الأسد أو لا أحد"، مع خراب ودمار وقتل وتفريط بالسيادة والإنسان، فهي أيضاً عوامل ارتجاف كرسي الطاغية من تحته.
موجة التفاؤل بهزيمة الأسدية، ما تزال أصداؤها قائمة ولها ما يبررها، حين يتعلق الأمر بما أنجزه السوريون على ساحتهم التي سطت عليها بالقوة أسدية الأمس واليوم، وبما انتهى إلى رسمه الشعب السوري من مواقف تخص هدم جدران الأبدية وفتح الطريق نحو الكرامة والمواطنة والحرية. وحتى اليوم، درعا ووريفها تثور على الطاغية، رغم وحشية الفاجعة التي ألمت بها، بمعنى أن أية فرصة وبارقة حرية لتعبير السوريين عن طموحاتهم ستكون ضد سفاحهم.
مخرجات الصراع بين الأسد وعضلات احتلاله من جهة وبين الشعب السوري من جهة ثانية، يصعب تحديدها بالحسم والسيطرة التي تسلح بهما. خريف النظام لاح منذ زمن بعيد صحيح، والأصح استعصى قدوم الربيع الذي يمد السوريين بنسغ الحياة، لكن المنهل الثري الذي يستمد منه السوريون عزيمتهم أفرزه نضالهم وتضحياتهم، حتى غدت ثورتهم فريدة في نوعها من بين الثورات في التاريخ المعاصر. وتأتي فرادتها بجرأتها وجسارتها على النيل من "هيبة الأسد وأبده" والوقوف بوجه المذابح، وتعرية وفضح الابن الشرعي للوحشية التي بذرتها الأسدية في رحم السلطة، فبعد خمسة عقود يستطيع أي سوري أن يقول: وهم الأسد انتهى وابن الأبد أيضاً.
فالثورة مستمرة، لسبب بسيط أن السوريين لم يمتلكوا سوى إرادتهم وحناجرهم التي حاول الأسد اقتلاعها، تسلحوا بإرادتهم، وواجهوا قوة " عظمى" جربت كل أسلحتها، وعصابات مأجورة وخذلان العالم وتآمره، وكل ذلك لن يمنع صدح الحناجر برحيل الأسد ومحاكمته عن جرائم لن تحمى وتخفى للأبد، ففتح أي ملف من الجرائم يكفي وحده لنزع آخر مسمار من كرسي الوهم.