قضايا وآراء

مرة أخرى: الإرهاب يغدر بالتونسيين

1300x600
في اليوم الذي كان فيه رئيس الجمهورية قيس سعيد يستعد لترؤس أول اجتماع وزاري لحكومة إلياس الفخفاخ، وفي اليوم الذي كان التونسيون يستعدون فيه للاحتفال بالذكرى الرابعة لانتصار أهالي بنقردان على الإرهاب في معركة شرسة خاضها المواطنون والأمنيون والعسكريون صفا واحدا ضد محاولة تسلل إرهابيين من الجنوب التونسي، في ذات اليوم (6 آذار/ مارس الجاري) أقدم شابان يركبان دراجة نارية على تفجير نفسيهما في دورية أمنية قبالة سفارة أمريكا بجهة البحيرة.

الحادثة أسفرت عن استشهاد ملازم أول في الأمن الوطني الشهيد توفيق الميساوي رحمه الله، وعن جرح أربعة أعوان ومواطن.

المعلومات حول هوية الشابين تقول إنهما سُجنا سابقا بتهمة "تمجيد الإرهاب"، وإنهما يخضعان للمراقبة الإدارية أي أنهما تحت الرقابة الأمنية.

هذه الحادثة أعادت الجدل لدى النخب التونسية، من إعلاميين وسياسيين ومثقفين وحقوقيين، حول ظاهرة الإرهاب وأسبابها والمسؤولين عنها.

الإرهاب بما هو فعل عنفي إكراهي ضد إرادة وحرية الآخرين هو بالتأكيد فعل إجرامي، مهما كانت منطلقاته سياسية فكرية دينية أو مالية ومهما كان فاعلوه وضحاياه، و"الإرهاب" بما هو حالة دخيلة على مجتمعنا التونسي المتجانس دينيا ومذهبيا وثقافيا مثّل مجالا للبحث والتساؤل وللتجاذبات السياسية والاستثمار الحزبي: ما هو تعريف الإرهاب؟ كيف تسلل إلى بلادنا؟ من المسؤول عن نشأة هذه الظاهرة الغريبة؟ ما علاقة الإرهاب بالتهريب وتجارة السلاح والمافيا الدولية؟ ما علاقة العمليات الإرهابية بالأجندات السياسية والترتيبات الإقليمية؟ كيف يمكن معالجة الظاهرة؟ إلى أي حد يتقاطع الثقافي بالأمني بالاجتماعي بالديني؟ ما مدى تأثير الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية في تحريك الإرهاب في تونس؟

هذه الأسئلة وغيرها من المهم طرحها لا بمناسبة الحادثة الإرهابية الأخيرة فقط، وإنما أيضا على ضوء طرائق تعامل السياسيين، خصوصا مع كل حادثة تستهدف أمن المواطنين أو الأمنيين والعسكريين.

لا خلاف على كون ظاهرة الإرهاب ليست ظاهرة محلية بل هي ظاهرة عالمية متنقلة وعابرة للقارات، ولا خلاف أيضا على كون ملف الإرهاب ليس ملفا أمنيا فقط، وإنما هو أيضا ملف ثقافي فكري سياسي اجتماعي ديني وتربوي، ومن ثم فهو ليس حكرا على الأجهزة الأمنية تنفرد بالبحث في أسبابه وحلوله.. هو ملف مشترك بين أصحاب كل الاختصاصات على أن يكون البُعد الأمني والمعلوماتي من اختصاص الأجهزة الأمنية المختصة، فلا ينحشر فيه أناس لا يجدون حرجا في إشاعة الروايات المركبة والمعلومات المختلقة المضللة بحثا عن سَبْق زائف أو توريطا لطرف أو استرضاء لجهة داخلية أو خارجية.

من معوقات معالجة ظاهرة الإرهاب هو تدخل الكثير من المتطفلين المتكسبين والمضللين، حين يغالطون الرأي العام ويرسلون خيالهم لابتداع روايات وأساطير لا علاقة لها بالوقائع والحقائق، من مثل ذاك الإعلامي الذي تحدث مرة عن عناصر من حماس الفلسطينية حفرت نفقا في جبل الشعانبي بالشمال التونسي، أو حين يحرض بعض المتأدلجين على التصفية الجسدية لطرف سياسي بناء على الانتماء العقدي، مثلما دوّنه أحد المثقفين التونسيين حين كتب: "يجب شنق آخر إسلامي بأمعاء آخر داعشي"، أو حين يوجه بعضهم التهم المهلكة مباشرة إلى طرف أساسي في المعادلة السياسية وفي مجلس نواب الشعب، وهو حركة النهضة، وحين يقول أحد المدعوين في ملف تلفزي: "هناك أناس يجب أن يخرجوا من تونس وأن يعودوا إلى حيث كانوا".

لا يخفى على العقلاء من سياسيين ومثقفين وعلماء اجتماع وعلماء نفس؛ ما يمكن أن تخلفه عقود الاستبداد والحرمان والإهانة والإذلال والتفقير والنسيان في أنفس وأذهان الكثير من الشباب، فيكونون أدوات طيعة للترويض والتوجيه والاستعمال من قِبل مجرمي المختبرات الخفية وأصحاب المطامع المتعددة. ولا يخفى على هؤلاء أن استهانة بعض النخبة المتعالية المعقدة المقعدة بمعتقد الشباب وتاريخه؛ يمكن أن تُخلف حالةً غضبيةً قد تتطور إلى التفكير في ردات فعل عنيفة بتعبيرات متنوعة ومتفاوتة الحدّة.

لا يكفي استصدار قوانين وتشريعات جديدة، ولا يكفي دعم الأجهزة الأمنية والعسكريين بأجهزة متطورة وعتاد جديد. فالمعركة ليست قتالا في جبهة معلومة الحدود، وإنما هي معركة معقدة ومتعددة الواجهات، تبدأ من الأفكار والقيم والتربية وتنتهي عند مقتضيات العيش.

بعض المصابين بأحقاد السياسة والأيديولوجيا ظلوا وما زالوا يأملون تصريف كل جريمة إرهابية تصريفا سياسيا أيديولوجيا، باتجاه تلبيس خصمهم السياسي التهمة المهلكة وإخراجه من المشهد.

الإرهاب سواء كان داخليا أو خارجيا لا يمكن أن يتسلل إلا من خلال تصدعات المشهد السياسي، حين لا يُبدي السياسيون التونسيون حالة "تضامن" من أجل خدمة الناس وحماية الأمن المدني وسيادة الوطن.. التونسيون الذين "يتعاركون" في المنابر التلفزية وفي البرلمان وعلى مرأى من المواطنين ومن العالم؛ لا يمكن أن يجلبوا لأنفسهم الاحترام ولا لوطنهم الهيبة، إنهم هم من يُغري أعداء الداخل والخارج بالجرأة عليهم والتفكير في النيل منهم.

قانون الإرهاب لا يكفي لتحقيق الأمن المدني والأمان النفسي، ولا يمكن أن يُستعمل لاعتصار التونسيين بين قبضة أمنية تتعلل بمخاطر الإرهاب للتضييق على الحريات وعلى مطالب المواطنين في التنمية وفي تحسين ظروف العيش.