للمرة الأولى منذ 136 عاما
تتقدم الدبلوماسية الألمانية في مغامرة جريئة، لكي تلعب دورا رئيسيا على مسرح
السياسة العالمية، بعد حربين عالميتين مدمرتين، خسرت ألمانيا في الأولى 10% من
مساحتها، وواحد من موانئها وكل ممتلكاتها الخارجية، وما يقرب من 40 بليون دولار،
في صورة تعويضات للدول الحليفة عن خسائر الحرب.
وفي الثانية تعرضت ألمانيا للاحتلال والتقسيم،
بعد تدميرها وهزيمتها في المغامرة الهتلرية المتوحشة. وبعد نهاية الحرب الباردة،
وسقوط سور برلين، وإعادة توحيد شطريها، شعرت ألمانيا الموحدة بأنه أن الأوان لتعود
مرة أخرى إلى المسرح العالمي كقوة رئيسية. وقد حاولت بالفعل منذ بداية تسعينيات
القرن الماضي، مع نشوب حرب البلقان، وتفكك يوغوسلافيا السابقة، وشاركت في مجهود
عسكري خارج حدودها للمرة الأولى، ثم شاركت تحت قيادة الولايات المتحدة في
التحالفات العسكرية العالمية، من خلال حروب مكافحة الإرهاب والتدخل العسكري في
أفغانستان والعراق وسوريا. ومع الأزمة الأوكرانية، سعت سعيا حثيثا لأن تلعب دورا
مستقلا نسبيا عن الولايات المتحدة، منذ عام 2014، ويجري تطوير هذا الدور من خلال
(صيغة نورماندي) الرباعية، التي تضم ألمانيا وفرنسا وروسيا وأوكرانيا.
الخطوة الجريئة التي خطتها الدبلوماسية
الألمانية بالدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام في ليبيا، تمثل خطوتها الأولى على طريق
الدبلوماسية المستقلة، في واحدة من الأزمات الخطيرة خارج حدودها، وخارج أوروبا.
ألمانيا لم تفعل ذلك منذ مؤتمر برلين (1884-
1885) المعروف أيضا باسم (مؤتمر الكونغو) الذي كان يهدف إلى الاتفاق على خريطة
لتوزيع النفوذ الاستعماري في أفريقيا بين القوى العالمية الرئيسية. ومن المصادفات
الغريبة أن ألمانيا دعت رئيس جمهورية الكونغو دينيس ساسو نجيسو الذي يرأس حاليا
لجنة أفريقية لمتابعة الوضع في ليبيا لحضور المؤتمر. وتأتي خطورة الأزمة الليبية
من حقيقة موقع ليبيا على خريطة المصالح الجيواقتصادية والجيوسياسية للعالم، فهي
الدولة رقم 10 من حيث احتياطي النفط المؤكد في العالم بعد الولايات المتحدة
مباشرة.
وفي ليبيا تتضارب مصالح قوى متصارعة من الشرق والغرب، على المستويين
الإقليمي والمحلي. كما تكتسب ليبيا أهمية محورية في النظام الدفاعي العالمي، كإحدى
نقاط الارتكاز الرئيسية لثلاثة أقاليم فرعية متوترة، هي شرق البحر المتوسط، والقرن
الأفريقي، ودول الساحل الأفريقي. وتواجه هذه الأقاليم الثلاثة تهديدات انتشار
الإرهاب، والهجرة غير الشرعية وعدم الاستقرار السياسي. كما تحتل أهمية كبرى على
خريطة الممرات المائية التجارية في العالم، ومكامن ثروات النفط والغاز. ويضاف إلى
ذلك هشاشة الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط، وانهيار الدولة في ليبيا، وفشل المجتمع
الدولي حتى الآن في الالتزام بالقرارات التي أصدرها مجلس الأمن بشأن ليبيا منذ عام
2011 مثل، حظر السلاح والقرارات المتعلقة بمكافحة الإرهاب العابر للحدود.
ورغم أن الدعوة إلى مؤتمر برلين للسلام في
ليبيا يتردد الحديث بشأنها منذ أكتوبر الماضي، فإن ألمانيا لم تكن متأكدة تماما من
الموعد الصحيح للمؤتمر، وموضوعات جدول الأعمال، وتحديد المدعوين، وتوجيه الدعوات
إليهم قبل الموعد بوقت كاف، وهو ما أدى إلى وقوع بعض الأخطاء مثل إغفال دعوة
المغرب، وهي الدولة التي لعبت دورا مهما في التوصل إلى (اتفاق الصخيرات) الذي يمثل
حتى الآن المرجعية السياسية للأمم المتحدة، بخصوص الوضع في ليبيا، وكذلك دعوة تونس
في وقت متأخر، ما أدى إلى رفضها حضور المؤتمر، رغم أنها دولة جوار مباشر مثل مصر
والجزائر. وقبل تحديد موعد المؤتمر بأسبوع تقريبا، نشطت الدبلوماسية الألمانية
نشاطا كبيرا، وسافرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إلى موسكو، لإجراء مشاورات
مع الرئيس بوتين، ثم اتصلت من برلين بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقام وزير
الخارجية هايكو ماس بزيارة خاطفة إلى بنغازي، للقاء الجنرال الليبي خليفة حفتر،
وتبادلت ميركل الرأي مع العواصم الأوروبية الرئيسية، وكذلك مع تركيا لضمان نجاح
المؤتمر، خصوصا بعد إخفاق بوتين وأردوغان في إقناع حفتر بقبول اتفاق وقف دائم
للقتال مع حكومة السراج في طرابلس.
وعلى الرغم من هذا المجهود الدبلوماسي
الألماني، فإن طبيعة الخلافات في الموقف من الأزمة الليبية بين الأطراف الدولية
مثل، روسيا والولايات المتحدة، وبين الأطراف الإقليمية مثل تركيا ومصر، وكذلك بين
الأطراف المحلية، تتجاوز قدرة الدبلوماسية الألمانية في الأجل القصير، فتغيير
مواقف هذه الأطراف، للوصول إلى تفاهم مشترك يحتاج إلى وقت أطول، كما يحتاج من
الألمان إلى العمل من أجل خلق معطيات جديدة على الأرض، تساعد على تقريب المواقف
بين الخصوم المحليين.
وبناء على معطيات الوضع المتأزم في ليبيا،
يمكن تحديد الأولويات التي كانت تدق بقوة على باب المؤتمر على الوجه التالي أولا،
وقف القتال، وإعلان خطوات لإعادة النازحين. ثانيا، سحب المقاتلين الأجانب، خصوصا
أولئك المنضمين إلى جماعات إرهابية عالمية، حسب تصنيف الأمم المتحدة مثل «القاعدة»
و»داعش». أن الإخفاق في ذلك يعني فتح الباب لنقل مقاتلي «القاعدة» و»داعش» من إدلب
إلى طرابلس. ثالثا، الالتزام بحظر السلاح، طبقا لقراري الأمم المتحدة رقم 1970
و1973 لعام 2011. رابعا، الاتفاق على إبعاد النفط عن السياسة والمواجهات العسكرية،
وإعادة تشغيل حقول وموانئ تصدير النفط. خامسا، وضع إطار لمفاوضات من أجل هدنة
دائمة، تخضع لآليات لمراقبة، بمشاركة أطراف دولية تحت إشراف الأمم المتحدة، من أجل
توفير مناخ افضل لمفاوضات سياسية.
وقد أظهر الإعلان النهائي الصادر عن المؤتمر
أن هناك رغبة من جانب القيادات المشاركة، للإعلان عن حسن نواياها بشأن الالتزام
بأن الحل للأزمة الليبية هو سياسي وليس عسكريا، وإنه من الضروري عدم التدخل في
شؤون ليبيا الداخلية، والتأكيد على الالتزام بقرارات الأمم المتحدة بشأن الأزمة،
مثل الامتناع عن توريد السلاح والمعدات العسكرية. هذا الإعلان عن حسن النوايا يبقى
مجرد عبارات للاستهلاك على مستوى الرأي العام العالمي، ما لم يتحول إلى خطة عمل،
لأن كل طرف من أطراف الأزمة، سواء الأصلية أو الحليفة أو المساعدة، يعمل من أجل
تحقيق أغراضه الخاصة. حفتر وماكرون على سبيل المثال يطلبان عدم استعانة حكومة
طرابلس بقوات أجنبية (يقصدون القوات التركية تحديدا) ، بينما السراج وأردوغان
وبومبيو يقبلون بالمبدأ نفسه، لكنهم يقصدون أن ترحل القوات المساندة لحفتر القادمة
من كل من روسيا والسودان وتشاد. هذا يفتح مجالا واسعا للالتباس، خصوصا فيما يتعلق
بإمداد الجماعات الإرهابية بالسلاح والمال والرجال.
ومنذ اللحظة الأولى لانعقاده، تلبدت سماء
المؤتمر بغيوم داكنة بسبب توقف إنتاج النفط في شرق ليبيا وجنوبها، تحت ضغوط رجال
القبائل المحليين المتحالفين مع الجنرال حفتر. كذلك فإن حفتر والسراج رفضا من جديد
أن يلتقيا وجها لوجه، وامتنعا عمليا عن المشاركة بفاعلية في المؤتمر. وعلى الرغم
من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أكد استمرار الأمل في تحقيق السلام في ليبيا،
فإن هناك نقاطا تثير الشكوك حول قوة النتائج النهائية للمؤتمر، منها عدم التوصل
إلى اتفاق بشأن عدد من المسائل العاجلة، أو ذات الأولوية مثل وقف إطلاق النار،
وإعادة رسم خريطة النفوذ العسكري، خصوصا فيما يتعلق بتدفق القوات الأجنبية
الحكومية، وغير الحكومية، وحظر إمدادات الأسلحة والمعدات العسكرية، وتغيير مواقع
القوات المتحاربة، وإعادة تنظيمها طبقا لآليات محددة، إضافة إلى إعلان خطوط عامة
بشأن العملية السياسية المستهدفة لإحلال السلام في ليبيا، وإزالة عوامل القلق
الاقتصادي، خصوصا في ما يتعلق بتدفق النفط وتصديره إلى الخارج.
ومع ذلك فإن الدبلوماسية الألمانية نجحت في
تحقيق اختراق على صعيد التحول إلى لاعب رئيسي على المسرح السياسي العالمي، والبدء
في عملية يجب أن تستمر بمشاركة الأمم المتحدة والقوى العالمية الرئيسية لإحلال
السلام في ليبيا، التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى حاضنة خصبة للإرهاب، ونمو
تجارة الأسلحة، وتهريب البشر عبر البحر المتوسط إلى أوروبا، وزيادة حدة الصراع على
النفوذ، نظرا لانهيار مؤسسات الدولة، وانتشار سطوة التنظيمات المسلحة المعتمدة على
التسليح والتمويل والمرتزقة من الخارج. كذلك فإن المؤتمر نجح في وضع جدول أعمال
للاتصال والمتابعة خلال الفترة المقبلة، على صعيد التهدئة وعدم التصعيد العسكري،
تحت إشراف الأمم المتحدة. ولم يكن من المتوقع أن يتطرق المؤتمر إلى الملفات
الشائكة، مثل وجود القوات الأجنبية، أو التمويل والتسليح من الخارج، لأن الأطراف
المتصارعة تحتاج أولا إلى ما يكفي من الوقت وإجراءات الثقة للانتقال من الحرب إلى
الاستعداد للسلام. وبما أن الدبلوماسية الناجحة لا تنتهي بنهاية المؤتمر، فإن دورا
كبيرا ما يزال ينتظر الدبلوماسية الألمانية، لضمان الوصول إلى نتائج عملية لتحقيق
السلام في ليبيا.
(القدس العربي)