من حين إلى آخر، تعود قضية التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي لتتصدر عناوين وسائل الإعلام ونقاشات مواقع التواصل الاجتماعي، وقد كان لافتا أثرها الكبير على توجهات الرأي العام العربية خلال الانتخابات التونسية.
فقد اكتسب الرئيس التونسي قيس سعيد تعاطفا كبيرا داخليا وخارجيا من الجماهير العربية والإسلامية لرفضه القاطع مسار التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي واعتباره خيانة عظمى، وكان واضحا حجم الاحتفاء به وبتصريحاته.
وعلى النقيض من ذلك يفقد كل من يقترب من
الاحتلال حضوره بين الأوساط الشعبية، ويفقد أيضا قيمه وأخلاقياته المزعومة،
فالاحتلال يعني الظلم ويعني الانتهاكات ويعني العدوان، والتصالح معه يعني التصالح
مع ذلك. التصالح مع الاحتلال يعني تصالح مع المرض والوباء، والقبول به قبول بالذل
والإهانة والسلب، فلا يوجد إنسان يقبل أن تصادر أرضه ومقدساته وتنتهك محرماته
وتسفك دماؤه ويتصالح مع ذلك كله إلا إذا كانت قد انتكست فطرته!
وفي آخر تصريحاته حول مسارات التطبيع يوم
السبت الماضي، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: «أرحب بالتقارب الذي
يحدث بين إسرائيل والكثير من الدول العربية»، وأضاف: «لقد آن الأوان لتحقيق
التطبيع والسلام».
لا شك أن الاحتلال لا يمكنه أن يستمر أو يستقر
دون علاقات وثيقة مع الدول العربية التي يعيش في وسطها، لذلك يعطي ملف التطبيع
أهمية استراتيجية تشغل حيزا كبيرا من تخطيطه، ويدرك تماما حجم تبعاتها وتأثيراتها
في المنطقة فكان وما زال ينظر إلى الشعوب على أنها السد المنيع أمام التطبيع.
فهذه القضية لها ارتباطات تتجاوز الاعتبارات السياسية البحتة، وغير مربوطة فقط بفرضيات مصالح مجردة، فهي في عمق اعتقاد الشعوب التي تعيش في المنطقة، وكل سلوك عدواني للاحتلال يستفز الشعوب ويتطلب من الحكومات والأنظمة مواقف واضحة بشأنها، وإلا تراكمت الانطباعات السلبية ضدها، بما يهدد صدارتها ومكانتها، وربما استقرارها لاحقا.
يعتقد البعض أن الاندفاع الأعمى تجاه تطبيع العلاقات مع الاحتلال يمنحه شرعية دولية تعزز أساسات عرشه، دون أن يتنبه لوجود خطر آخر يهدد شرعيته الأخلاقية أمام شعبه والشعوب، ويفقده قدرة التأثير فيها، أو تحريك مشاعرها وتوجهاتها حال تعرضها لمخاطر سواء داخلية أو خارجية.
وحتى يتمكن أي نظام من بناء علاقة وثيقة مع
شعبه، عليه أن يتبنى بصدق القضايا التي يتبناها شعبه ويؤمن بها، لذلك بتنا نلمس في
الآونة الأخيرة مشاريع دخيلة لصناعة وعي مزيف في الأمة بتصدير بعض الشخصيات من بعض
الدول لتنادي وتتبجح بالتطبيع سلوكا، في محاولة لكسر الحاجز بين شعوب الأمة وبينه.
وهذه النماذج تخرج في دول لا تقيم حكوماتها
علاقات رسمية مع الاحتلال، وعلى ما يبدو فهؤلاء مجرد أدوات رخيصة تمهد لمسلسل
تطبيع متدحرج. لكن ما يجهله هؤلاء ومن يقف خلفهم أن الأمة وإن ضعفت وأن شعوبها وإن
سكنت يوما أو حتى دهرا لا بد وأن تنهض من كبوتها، وأن تستعيد عافيتها، هذا درس
التاريخ، وهذا هو المستقبل لا محالة، وهذا هو الرهان الحقيقي ودون ذلك وهم وخبل.
ومن زكم ولم يستطع شمّ العطر في الورد لا
يمكنه إنكار وجوده، الخير باق، الإيمان باق، وسيأتي يوم ينهض فيه وينتصر.
(العرب القطرية)