لا أظنُّ أنَّ الكاتب
الإسرائيلي جاكي خوجي كان يمزح، أو يستطرف عندما أفشى سرا، لقد جاءنا من رام الله
بنبأ يقين، وقال إنه "رافق ستة إسرائيليين في طريقهم الثلاثاء الماضي مساء،
من تل أبيب إلى رام الله، حيث وصلوا جميعا سالمين إلى مقر الرئاسة الفلسطينية في
المقاطعة، وكان بانتظارهم "شاب صغير" عمره 84 عاما، اسمه محمود عباس
(أبو مازن)، واستضافهم في مقره". وخرجوا غانمين.
ولم أجد أحلم من "أبو مازن" بين
العرب على حداثة سنّه!
وأضاف جاكي خوجي، الخبير الإسرائيلي في الشؤون
العربية، بمقاله في صحيفة معاريف، إنها "ليست المرة الأولى التي أرى فيها
رئيس السلطة الفلسطينية بهذه الظروف (يقصد بهذه المناسبات) فقد دأب على استضافة
العديد من الإسرائيليين، صحفيين، ورجال أعمال، وطلابا، ونشطاء سياسيين، ولديه فريق
خاص للتواصل مع المجتمع الإسرائيلي، ويعمل على مراجعة كل زيارة (بالدرس والذكر
والعبر)، وهي لجنة بدأت العمل منذ سبع سنوات، واستضافت المقاطعة منذ ذلك الوقت
عشرات آلاف الإسرائيليين".
عشرات الآلاف! كم هو كبير هذا الشاب الصغير
الذي يمضي في حاجة أهله، ويعد بالكثير إنْ بلغ مرحلة الشباب!
وقال: "أبو مازن يتفاخر بلقاءاته مع
الإسرائيليين، ويسمح بنشرها (إشاعة للفضائل)، لكنه في هذا اليوم تباهى أنه يعرف
الموسيقار زائن يحزكيلي، اليهودي المتدين الذي يغني بالعربية".
ولأنَّ بعض
الظنِّ إثم، علينا أن نظنَّ أن الشاب الصغير يريد أن يتألف قلوب الإسرائيليين على
القضية الفلسطينية وليس عليه، فشعبه يحبه، وشعب إسرائيل يحبُّه أكثر من شعبه، وهو
صغير في السن وليس في القدر، وأمامه مستقبل باهر. وهو لحبِّه صدقة السر، يكتفي
بالسماح بالحديث عن الزيارة لكنه يرفض التصوير الحي ويقنع بصورة وحيدة ثابتة.
ولا أدري لِمَ لا يذيع فريق الشاب عباس، هذه
الأخبار السعيدة وينفلها (من الأنفال) ضيوفه اليهود، فلعله يريد أن يكرمهم ويطوقهم
طوق الحمامة أبد الدهر، فهم عرب مثل عباس، كما أنه أخبرهم بأنه يحب الأشكناز أيضا،
لكنه يكره حماس، فهم كفار قريش. وهو كريم، أصيل. وكان سبق للشاب عباس أن قال إنه
من صفد وهو يتخلى عنها لليهود مقابل رام الله.
زميل عباس أبو مازن، بشار حافظ الأسد، شاب
أيضا في الرابعة والخمسين، وهو أكرم من الشاب عباس، وهو زميله في أمرين؛ فكلاهما
كريمان وكلاهما شيرمان، وبلداهما تحت الاحتلال. أخبرنا بشار بنفسه من غير أن يضع
قدما على قدم، بأنه متواضع، في لقائه مع قناة "آر تي" الروسية الناطقة
بالإنكليزية. وهذا ليس سرا يُفشى، فتواضعه معروف في طول سوريا وعرضها. ونظنُّ أنّ
ذكر برهان قيادة السيارة بنفسه من بين البراهين على تواضعه ليس مناسبا ويجانبه
التوفيق، وهو يشبه قول ماري أنطوانيت: "كلوا بسكويت"، فقد عشنا مع بشار
الأسد، ولن ندّعي أنَّ السوريين كثيرا ما يرونه واقفا في طابور الفرن، وطابور
الغاز، وفي باص النقل الداخلي، فهو رئيس دولة، ووقته ثمين، والعدو ليس على الأبواب
بل في البيت.
نحن نجد تواضعه في استقباله بوتين وأدبه الجم في محطة حميميم؛ لأنه
أدرك أن العين لا تعلو على الحاجب، أو في خبر سفره إلى روسيا بطائرة شحن توفيرا
للنفقات، وهي طائرة كبيرة وعظيمة وفيها أماكن للركاب. ونجد التواضع في تردّي قيمة
الليرة السورية وانحطاطها، وصورته على فئة الألفين، وعلى فئة الألف صورة والده، وإن
لم يكن من الأدب العربي والخلق القويم وبرِّ الولدين أن تعلو قيمته قيمة والده
نقديا. وإن قلّت الفروق بينهما ماليا، فكلاهما (الألف ليرة والألفان ليرة) صارتا
قروشا من غير أنياب، ودلافين في البر. والدلافين لا قيمة لها على اليابسة.
وبلغ تواضع الرئيس اليمني أنه لم يعد يُرى
بالعين المجردة، من كثرة الاعتكاف في قصره في السعودية، حتى لتظننَّ كل الظنِّ أنه
قد اختفى في السرداب السعودي ودخل في الغيبة الصغرى، أو أنه أسير في الريتز حتى
يتنازل عن اليمن كلها، حتى إنه لا يغرد، ولا يهمس ببنت شفة ولا بحفيدتها.
فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ.
وأظن أن جاكي كوجي، لم يكن يمزح، وكان شديد
الجدّ، عندما وصف عباس أبو مازن بالشاب الصغير، فقد بذل عباس جهدا ونشاطا في
استقبال ضيوفه، كأنه رأس الحية المتوقد، يثب ويقفز من حول الستة الإسرائيليين
وسابعهم كاتبهم، مرحّبا بضيوفه الكرام، ولم يكن مشهد الضيوف المتخيل الموصوف يشبه
مشهد دخول السندريلا الأمريكية إيفانكا قصر اليمامة السعودي، التي خلب قدومها
الألباب، وجعل رجال التشريفات "الخويا"، يخالفون "الأوردر"
ويفسدون التصوير وعيونهم شاخصة إلى إيفانكا وزوجها وهما يعبران القصر عبورهما
الملحمي، وكأنهم يرون أنثى للمرة الأولى في حياتهم الصحراوية الجافة، وأنَّ إيمان
النفجان أو عزيزة اليوسف أو لجين الهذلول كنَّ أولى من إيفانكا بذلك العبور.
عباس في لقاء الثلاثاء الأخير اشتكى من غير
بكاء، أمام ضيوفه اليهود، بأنه لم يحظَ بعقد أي قمة مع رئيس الحكومة الإسرائيلية
بنيامين نتنياهو منذ تسع سنوات، "رغم أنني عرضت عليه اللقاء عشرين مرة، دون
أن أنجح في ذلك". ولم يذكر الكاتب إن كان وزن "أبو مازن" قد نزل من
السهاد والشوق إلى لقاء نتنياهو.
ويذكّر خبر الشاب "أبو مازن" بخبر
الرئيس الخجول المتواضع السيسي، وتواضعه له آيات كثيرة، منها أنه قبِل أن يشرك معه
وزير الداخلية محمد إبراهيم في الرسالة على لسان الأزهري سعد الدين الهلالي.
ويقال إنَّ السبب في إشراك الهلالي في الرسالة والابتعاث حوَل في البصر، لا أكثر. ومن آيات تواضعه ذلك التصوير الملحمي لدخول السيسي المؤتمر الوطني للشباب، على ألحان وطنية، كأنه رامبو، ورجال التشريفات حافين من حول العرش، وكاميرا على سكة، تصوّره من تحت ومن فوق وترتد متقهقرة، كأنه ذاهب إلى الزر النووي.. تقول الكاميرا : انظروا، رئيسنا عنده عثرة في التعبير وحمرة في الخدود فائضة عن زيارة الإمارات، لكنه بطل في المشي السريع في المسافات الطويلة على السجاد الأزرق والأحمر.
البعد الشمولي المقلق في أجندة الحرب السعودية
شرعنة المستوطنات.. المسار والمَخْرج
الاستيطان الصهيوني والتواطؤ العربي