طوى التونسيون صفحة الانتخابات الرئاسية والتشريعية وقبلهما البلدية، لمدة خمسة أعوام مقبلة، وسكن رئيس من أبناء الشعب قصر الرئاسة في قرطاج، بينما اعتلى رئاسة البرلمان واحد من أهم أسماء الإسلام السياسي في العصر الحديث في صورة أقرب إلى الحلم منها إلى الواقعية، في ظل عالم عربي متقلب وحروب أهلية تعج بها المنطقة..
إنجاز الانتقال السياسي السلمي الذي يفتخر به الساسة التونسيون، لا يوازيه نجاح اقتصادي، إذ لازالت نسب البطالة مرتفعة، كما ارتفعت نسب المديونية على نحو يهدد اقتصاد البلاد بالكامل، وهو ما يستوجب برأي خبراء في السياسة والاقتصاد، فضلا عن سياسات الترشيد المطلوبة والتي من ضمنها مكافحة الفساد وترسيخ العدالة الجبائية، أيضا إبداع حلول اقتصادية ناجعة لتقديم المساعدات المستعجلة المطلوبة لمستحقيها.
وضمن هذا الإطار، عاد ملف الزكاة، كواحدة من آليات معالجة الفقر إلى طاولة البحث السياسي في تونس، بعد أن هدأ غبار المعارك الأيديولوجية، أو قل تراجع لصالح معالجة القضايا الاقتصادية المستعجلة، والتي أصبحت تهدد كيان الدولة من الأساس.
الصحفي والإعلامي التونسي، سليم حكيمي، يبحث في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، عودة ملف الزكاة للنقاش بين النخب والقيادات السياسية، ويتساءل عما إذا كان الأمر يتعلق بعناوين انتخابية عابرة، أم أنه مشروع واقعي لمواجهة حاجيات اجتماعية ملحة؟
طفا موضوع الزّكاة من جديد على السّطح زمن الحملة الانتخابية الرئاسية والتشريعية الأخيرة في تونس. كان المقترح مدرجا ضمن برنامج مرشح الرئاسة المحامي "سيف الدين مخلوف" عن "ائتلاف الكرامة" الناشئ وصاحب الكتلة البرلمانية الفائزة بـ 22 مقعدا في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
وعودته إلى الطرح من جديد جعل حركة "النهضة" التي نأَت عن العناوين الإسلامية، تحرص على إدراجه من جديد في برامجها بعد أن تم اقتراحه سنة 2012 مشروعا في البرلمان، ولكن تم التخلي عنه تحت ضغط قوى علمانية ويسارية، ورأت الحركة أن موازين القوة لا تسمح بتمريره يومها. إثر الثّورة، علت أصوات كثيرة تنادي بتفعيل الزكاة، الرّكن العملي الثالث من أركان الإسلام الخمسة لحل المشاكل الاقتصادية الحرجة بعد أن ثبت عجز الدولة المزمن عن الحلول.
في فراغ الدّولة وصراع الأحزاب الداخلي والبيْني، توغل عميقا حزب رجل الأعمال نبيل القروي "قلب تونس" المتّهم بتبييض الأموال والتهرب الضريبي حين ساعد أُسَرا مسّ البأس العظم منها واشتد عليها وقر الفاقة والفقر. فلمع اسم القروي كجابر لعثرات الفقراء ومُقيل عثرتهم، حتى بلغ الدور الثاني من الانتخابات يوم 13 تشرين أول (أكتوبر) الماضي، وكان قاب قوسين أو أدنى من نيل منصب الرئاسة.
وعادت مرة أخرى للتصاعد دعوات تفرض اللجوء إلى البدائل التي يقدّمها القطاع الثالث في معادلة بين القطاعين العام والخاص وما يوفره المجال الخيري من مدد لتمويل الاستثمار في المشاريع الصغرى التي تسدّ احتياجات فئة عريضة من المواطنين الذين لا يشملهم القطاع البنكي، وفئة كبيرة من أصحاب المهن الحرة وأصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل الذين بلغ عددهم 250 الف، إذ أنّ رهان المرحلة السياسية المقبلة يجب أن يتمحور حول العدالة الاجتماعية نواة التغيير.
الزكاة مقترح المجتمع الأهلي على الدولة
أجمعت كل الدراسات تقريبا على أن قانون الزّكاة حل عملي ويسير التطبيق لمقاومة الفقر ودعم الاستثمار. وتجمع أغلب الدراسات على مبلغ بين 3500 و4000 مليار دينار تونسي هو إجمالي أموال الزكاة التي يمكن جمعها. وهو رقم يساوي 5% من الناتج الوطني الخام و12% من ميزانية الدولة.
وأمام هذه الحصيلة كان ولا بدّ من العناية بهذا القطاع وإدراجه في برامج بعض الأطراف السياسية. في حقيقة الأمر، وبعد ثورة 2011 تحمست جمعيات أهلية ناشئة على قدرة صندوق الزكاة على تطويق الفقر المستشري، حيث قامت "الجمعية التونسية لعلوم الزكاة" بتقديم جملة من الأرقام حول القيمة المحتملة لأموال الزكاة لسنة 2017 في عدد من الأنشطة الاقتصادية. وانتهت إلى أنّه يمكن توفير مبلغ شهري بـ 370 دينارا كقيمة أموال الزكاة المودعة بالبنوك التونسية لسنة 2017 لكل عائلة فقيرة، باعتبار أن عدد الأسر التي تحتاج الدعم حسب تقرير وزارة الشؤون الاجتماعية 250 ألف عائلة تونسية فقيرة، كما بيّن الإحصاء اِمكانية توفير 71 كغ من زيت الزيتون لكل عائلة مُعدمة بعنوان زكاة صابة الزيتون السنوية، وكذلك 73 كغ من زكاة التّمور السنوية.
وأكدت الدراسة أن الزكاة السنوية على الأسهم المدرجة ببورصة تونس للأوراق المالية يمكن أن توفر 54 ألف خط استثماري بقيمة 10 آلاف دينار لكل عاطل عن العمل.
وفي هذا الصدد، تذهب الاستاذة آمال عَمْري رئيسة الجمعية التونسية للمالية الإسلامية والشبكة الإفريقية لتطوير المالية الإسلامية في رؤيتها لمؤسسة الزكاة بين الضرورة الشرعية والحاجة الاقتصادية إلى القول: "إنّ طرح موضوع مأسسة فريضة الزكاة في الفترة الأخيرة يندرج ضمن السعي لتقديم حلول للأزمة المالية والاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها البلاد. لقد تمّ تداول مقترح تأسيس هيئة زكاة في برنامج انتخابي لأكثر من طرف سياسي، فلماذا هذا الخيار في هذه المرحلة بالذات؟
نلاحظ اليوم توجه الخبراء والمختصين في الشأن الاقتصادي إلى خيار الاقتصاد الاجتماعي والتكافلي. وفي هذا الإطار نرى أنّ ما تقدّمه شعيرة الزكاة من إسهام في تحقيق التنمية جدير بأن يجعل من الضروري الأخذ بها ومأسستها حتى يكون تداول المال في البلاد مقنّنا وبشفافية وحماية للمجتمع من التورّط في قضايا تبييض وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
إنّ ما تقدّمه الزكاة من رصيد سيولة ضخم يسدّ ثغرات في ميزانية الدولة ويخفّف عبئا كبيرا عن الصناديق الاجتماعية. وفي هذا الإطار قدمت جمعيتنا إثر المنتدى الأوّل للزكاة في أيلول (سبتمبر) 2011، بمشروع قانون مؤسسة الزكاة وسلمت نسخا منه إلى رئاسة الحكومة ومجلس الشعب".
وتتساءل قائلة: "ألا يحقّ للمواطن أن توفّر له دولته مؤسسة تكفيه عناء احتساب فريضة زكاته وتتولّى توزيعها لمصارفها المحددة شرعا؟ ألا يحقّ للفقراء أن يتمتّعوا بحقوقهم في أموال الأغنياء؟ فلم كل هذا التردّد والتأخير؟
يعضد هذا التوجه تصريح خبير مالي مهم، هو "عزّالدين خوجة" المدير العام السابق لمصرف الزيتونة والأمين العام لمؤسسة البنوك الاسلامية، حيث قال: "لا بدّ من هيئة وطنية تشرف على الزكاة منتخبة من البرلمان. الزكاة فريضة وصارت مطلبا شعبيا كبيرا جدا لأنها آلية لدعم الاقتصاد التّضامني في بلادنا. وحسب خبرتي، وفي إحصاء لودائع 11 بنكا ـ فقط ـ وإلى غاية تاريخ حزيران (يونيو) الماضي، فإننا نجدها قد ارتفعت إلى 67 الف مليار، ولو أخذنا من هذا المبلغ 2.5% سنحصل على 1675 مليار. فما بالك لو أضفنا إليها زكاة الحبوب والتمور والزيتون؟ الزكاة تستطيع أن تكون أداة لتفعيل اقتصاد بلادنا وتوفير مواطن الشغل وتحقيق التوازن بين الجهات. هذا المشروع الجديد مهم جدا وسهل الانجاز".
ومهما قيل، فإن أهل الاختصاص من خبراء الدولة هم من يقرّ بجدوى المشروع. والأغرب نشر الحكومة نفسها نتائج دراسة في 6 نيسان (أبريل) 2016 أجراها فريق من الباحثين تابع للوزارة الأولى بعنوان "تأهيل الفضاء الديني تماشيا مع الدّستور وتحصينا له من المخاطر"، حيث أوضحت أن التقدير الأوّلي لحجم أموال زكاة الأفراد يترواح بين 400 و1100 دينار سنويا دون اعتبار حساب زكاة الشركات، وهي التي تمثل النصيب الأوفر من الاموال.
في حقيقة الأمر تتعدد الأسباب لمنع ظهور هذا المشروع في تونس وأهمّها: التحجّر الأيديولوجي لمسوؤلي الدولة العلمانيين ونزعتهم الدائمة إلى تهميش الدين وإقصائه عن الحياة والعمل على إظهاره جزءا من المشكل وليس من الحل، في وراثة مقيتة لصراع الدّولة مع الدين الذي دشّن عهده الرئيس السابق "الحبيب بورقيبة"، مؤسس أصلب العلمانيات في المغرب العربي ويكفي إلغاؤه الأوقاف دليلا، وهو ما لم يقدم عليه "كمال اتاتورك" في تركيا حين ألغى كل المظاهر الإسلامية إلا أنه لم يمس الوقف واعتبر موضوعه متعلقا بتنمية مجتمع.
ولكن في تونس تتواصل التجاذبات الأيديولوجية التي ترفض تحول الأوامر الإلهية إلى قواعد قانونية، فاشعلت من كل حطب نارا انتهى بقرب حرق التجربة الانتقالية برمتها، بل لم تنتج سوى إهمال أنّات المستضعفين وإهمال شؤونهم وتجاهل مخاوفهم وهواجسهم انتهى بهوانهم على الناس والدولة. فلم يلاق تقديم مشروع إحداث صندوق الزكاة إلا المعارضة من الجانب العلماني اليساري تحت عناوين الخوف من "أسلمة الدولة" و"أخونة الدولة" وتعويض الدولة المدنية بالدولة الدينية.
ويذهب الدكتور سليمان الشواشي الأستاذ بجامعة الزيتونة ومدير تحرير "مجلة الهداية" التي تصدر عن المجلس الإسلامي الأعلى إلى القول بأن الحل يكمن في تفعيل القانون المنظم للمجلس الذي ينص على أنّ من مهامه التصرّف في موراد صندوق الزكاة قائلا: "يمكن الاستئناس ببعض التجارب مثل السّودان التي أحدثت ديوان الزكاة وهي من أعرق التجارب مع أندونيسيا ونيجيريا وجيبوتي. كما لا ننسى تجربة الجزائر التي أحدثت صندوق الزكاة سنة 2003 برعاية وزارة الشؤون الدينية".
في كل الحالات، وبعيدا عن المناسبات الانتخابية، تبقى الزكاة فريضة ورِفدا ماليّا للدولة، ويظل الإسلام الدّين الوحيد الذي حرّك جيش الدولة من أجل انتزاع حقّ الفقراء في عهد الخليفة أبي بكر زمن الردّة ضد مانعي الزكاة التي ذكرها الله مقترنة بالصّلاة في 28 موضعا وفي السُنّة عشرات المرّات. قال تعالى: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" البقرة: آية 83
ويبقى السؤال للنخبة والطبقة السياسية التي عليها أن تحسم الأمور من أجل معالجة فقر اتّسع على راتق الدولة بعد أن اعترفت أن نِسَبه تبلغ 15.6% في تقرير نشرته وزارة الشؤون الاجتماعية شهر أيلول (سبتمبر) الماضي.
وسيكون على البرلمان التونسي الذي دشن أعماله الأسبوع الماضي، وانتخب رئاسته ولجانه، أن يتواضع أمام ثقل المسؤوليات والتحديات الاقتصادية والادجتماعية تحديدا، بحثا عن الحلول الاقتصادية الناجعة بين التونسيين لا لدى المانحين من الجيران أو من الحلفاء.
صحفي من تونس