لم يستقر علمانيو لبنان على صيغة واحدة لشكل الدولة العلمانية التي يريدونها، كبديل نهائي عن الشكل الدولتي المعمول به منذ 1920، الذي يكرس سلطة الطوائف ضمن المنظومة المؤسسة للدولة، وثبتوها بالأعراف ثم بالدستور، بغرض حفظ حقوق الطوائف وتبديد هواجس المكونات التي باتت تنظر إلى التلاحم المجتمعي على أساس الهوية الدينية، على أنه حامٍ نهائي وضمانة من مخاوف الاضمحلال.
عند كل منعطف سياسي في البلاد، تتصاعد الدعوات للانتقال إلى دولة علمانية، لكنها تصطدم بالشكل الذي يريده المطالبون بها.
ويرى عقل في حديث لـ"عربي21" أن "الموضوع يتعلق بحقوق الطوائف ومصالحه، ويتعلق أيضا بالمخاوف وفي مقدمتها الخوف من انعدام التوازن الطائفي المذهبي لحساب فريق الآخر". ويؤكد أن "العلمانية أو الانتقال إلى الحالة الوطنية، حيث المساواة في العدل الاقتصادي والاجتماعي لجميع المواطنين هي ثقافة وطنية، هي قيم ومثل وتعاليم وتربية، تبدأ في العائلة وتمتد أفقيا في اتجاه المؤسسات الاجتماعية والدينية والتربوية والجيش ومؤسسات الدولة، وخصوصا في معيار اختيار الموظفين في القطاع العام على أساس الكفاءة والإبداع والاختصاص والوجدان الوطني والولاء للوطن دون غيره".
ولا يخفي عقل أن "العلمانية مدرسة، خطة إصلاحية نظامية ترتكز على تعاليم تنهض بالأخلاق"، لافتاً إلى أن "عصر النهضة في بلادنا شهد ثورة حقيقية على هذا الصعيد، ويمثل انطوان سعادة قمة هذه الثورة، بمبادئه الإصلاحية الثلاث التي هي فصل الدين عن الدولة، منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين، وإزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب، وقد نجحت تعاليم سعادة في توليد هذه الثورة بين صفوف اتباعه، الذين بالفعل أوجدوا الدولة العلمانية الحقيقية".
مشكلة أصل النشوء
رغم كل التجارب الداعية إلى تثبيت الدولة العلمانية، إلا أن المانع يتمثل في تشبث المؤسسات الدينية في مجرى الشؤون المدنية والسياسية والقضائية ومراوغة بعض السياسيين في المحافظة على مكتسباتهم ومصالحهم ودورهم الإقطاعي.
ويقول طلال عتريسي، العميد السابق لمعهد الدكتوراه والآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية، وأستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، في حديث لـ"عربي21": "إن العلمانية لا تأخذ مجراها في لبنان، لأن أصل دولة لبنان قامت على الطائفية السياسية، وكل الصراعات في لبنان منذ الاستقلال إلى اليوم قامت على الطائفية والتوازنات الطائفية، وحتى اتفاق الطائف كرّس التوازن الطائفي، أخذ من صلاحيات رئيس الجمهورية وأعطى المزيد من الصلاحيات لرئيس الحكومة من خلال البعد الطائفي أيضا، لكن في الدول العربية الأخرى لا يوجد فيها هذا البعد الطائفي، إنما دستور علماني كسوريا، أو الإسلام أو الشريعة هي الدستور كمصر، وليس نظاماً طائفياً، وإن كان يقوم على أحزاب أو على سلطة مستبدة، ومن هنا لا نرى مشكلة نظام طوائفي في الدول العربية".
وإذ يؤكد عتريسي أن "الدولة العلمانية هي دولة غير طائفية، دولة حقوق المواطن بغض النظر عن طائفته"، يشير إلى أن "هناك مشكلة كبيرة في التعامل مع هذا الطرح، فالكتل الطائفية الكبيرة لا ترضى بمثل هذا الاقتراح، ذلك أن إلغاء وضع الطوائف وإلغاء خصوصية الطوائف وإلغاء رئاسية الطوائف والإنتقال إلى دولة ينتخب الشعب الرؤساء ونظاما يقوم على أساس الكفاءة، لهذا السبب هناك قوى كبيرة تعارض وكان المفترض منذ اتفاق الطائف تشكيل الهئية الوطنية لإلغاء الطائفية السيلسية، وهذا لم يحصل بالعكس نشهد المزيد من الصراع على موضوع الحصص الطائفية والتوازن الطائفي". وعليه، ليس هناك جدية عند الكثير من القوى من الطوائف في الانتقال إلى الدولة العلمانية التي تعني إلغاء الطائفية السياسية.
التيار الأقل نفوذاً
بعد 100 عام من الممارسة الطائفية لشكل الحكم الذي يعتمد التطييف أساساً للدولة، يرى كثيرون أن تحقيق العلمانية الشاملة، هو الآن أصعب من أي وقت مضى، كما يرون أن هناك صعوبة تحقيق العلمانية الشاملة من جهة أو استحالة الاستغناء عنها من جهة أخرى، وهي مفارقة تطرح التحدي الأكبر على اللبنانيين.
يقول عتريسي: "هناك علمانيون في لبنان، هناك قوى سياسية علمانية غير طائفية، من مختلف الاتجاهات الحزبية يسارية وقومية ومدنية، لكن مشكلتها أنها ليست تيارا كبيرا في المجتمع اللبناني، المشكلة أنها لا تزال القوى الأضعف والأقل تأثيرا ونفوذا، على الرغم من مواقفها وبياناتها وصوتها العالي أحيانا، وهي غير موجودة في السلطة بغية تغيير القوانين، بغية إضفاء المزيد من العلمانية السياسية على الواقع اللبناني بداية من قانون انتخاب غير طائفي، إلى قوانين أخرى تلغي المناصفة أو المثالثة أو غير ذلك".
ويشير إلى أن العلمانيين ليس لديهم تأثيراً شعبياً كبيراً، ولا يشكلون تياراً يمكن أن يغير في التوجه السياسي في التأثير على النظام السياسي في لبنان، ربما يحتاجون إلى نسج تحالفات مع قوى أخرى، أو من الطوائف الأخرى ربما مستعدة لإلغاء النظام الطائفي السياسي، فهذا ممكن أن يعطيهم فاعلية أكبر.
وتصبح المقاربة أكثر متانة إذا ما منحت أبعاداً قانونية. فالدستور اللبناني يحمل بين طياته كل المقومات الضرورية لقيام مؤسسات المجتمع الأهلي وصيانتها وحمايتها، كما يقول الدكتور عقل، إلا أنه في الواقع، في التطبيق، فإن "الدولة اللبنانية" منذ وضع دستورها في عهد الانتداب الفرنسي عام 1926، وما رافقه من تعديلات وتأكيدات وإشارات لمدنية الدولة ومؤسسات المجتمع المدني فيها، إلا أنه بالرغم من ذلك، فما زال "النظام الطائفي" القائم على العرف، لا على الدستور، هو الذي يتولى السلطة في الدولة اللبنانية، على أساس المحاصصة الطائفية، التي بدت وللوهلة الأولى أنها بصورة مؤقتة، ولكنها في الحقيقة بصورة دائمة، على الأقل حتى يومنا هذا".
ويضيف: "قد يعترض البعض على الدعوة لتطبيق العلمنة، ويرى أبعد من ذلك، أنه من الصعب تطبيقها... في دولة تتولى الطوائف السلطة فيها، ويحكمها نظام راسخ في الأعراف".
مخاوف جامعة
تصطدم طروحات العلمانية بالمخاوف لدى الطوائف في لبنان من إلغاء هذه الصيغة. ويشرح عتريسي: "المسيحيون على سبيل المثال يعتبرون لبنان هو تجربة فريدة ومميزة في الشرق الأوسط، لأنه البلد الوحيد في الشرق الأوسط التي يرأسها رئيس جمهورية مسيحي، وأيضا هناك اعتبار أن لبنان هو بلد التنوع الطائفي والمذهبي، والبعض يقول أن هذه خصوصية لبنان ورسالته الحضارية من أجل هذا السبب لا نرى حماسة مسيحية لإلغاء الطائفية السياسية، وطوائف أخرى قد لا تكون متحمسة، والأقليات أيضا قد لا تكون متحمسة، هذا كله يعرقل إلغاء الطائفية السياسية والذهاب إلى العلمانية حتى الوضع الإقليمي والدولي غير مساعد وغير مهتم. فلا الوضع الداخلي مهيأ ولا الوضع الدولي مساعد على هذا الانتقال إلى العلمانية السياسية".
ويضيف: "هناك مخاوف من العلمانية لدى بعض الطوائف المسيحية والإسلامية، من أن تكون العلمانية معادية للدين، هناك بعض العلمانيين متطرفين متشددين معادين للدين، يريدون إلغاء الدين من الحياة الاجتماعية ومن الأحوال الشخصية. هذا الالتباس يجعل الناس تخاف من العلمانية في حين أن العلمانية الأخرى ـ لأن هناك أكثر من مستوى من العلمانية ـ تعتبر نفسها متصالحة مع الدين ومع انتماء الناس الديني، ومع احوال الناس الشخصية بحسب دينها ومعتقدها، لكن على المستوى السياسي والتمثيل السياسي وإدارة البلد سياسياً، لا يجب أن يكون الأمر على أساس طائفي أو مذهبي".
أسئلة المستقبل ومخاوف انتهاك الخصوصيات
وتنسحب الهواجس نفسها، إلى التفاصيل. يقول المعترضون إن العلمانية في لبنان، كنظام سياسي بديل عن النظام الطائفي، تصطدم بخصوصية المجموعات الثقافية اللبنانية المتمسكة بشريعتها، وأنظمة القيد الخاصة بها، في أمور الزواج والطلاق والوفاة والوراثة وسواها، لأنها تشكل العنصر الأساسي المكون لشخصية كل منها.
ويقول عقل: "يجد هؤلاء المعترضون في خصوص إلغاء الطائفية السياسية التي نص عليها اتفاق الطائف (مقدمة الدستور)، فهي، نظرا لتركيبة المجتمع اللبناني التعددية، ليست سوى أداة تهويل يستخدمها أشد الناس تعصبا طائفيا بهدف السيطرة على مقدرات الدولة والحكم بقبضة حديدية تلغي الشركاء في الوطن وترسي مبدأ العددية، وان أية محاولة لالغاء الطائفية السياسية في ظل نظام مركزي وحدوي لن تكون حلا للحالة الطائفية في لبنان، بل تشكل انتهاكا لخصوصية المجتمع اللبناني".
تصطدم طروحات العلمانية بالمخاوف لدى الطوائف في لبنان من إلغاء هذه الصيغة.
الألتراس الرياضي بالمغرب.. تنفيس آني أم استثمار سياسي؟
احتجاجات لبنان.. انقلاب المفاهيم واهتزاز المقدسات
"المؤتمر القومي العربي".. مواجهة التفكك بالخطب والشعارات