قطع أحمد ويحمان أكثر من 700 كيلومتر من مدينة الرباط في اتجاه مدينة أرفود في الجنوب الشرقي للمغرب، والهدف تسجيل موقف اعتراضه على مشاركة الفرع المغربي لشركة فلاحية؛ يقول المرصد المغربي لمناهضة التطبيع أنها مرتبطة بجيش الاحتلال الإسرائيلي.
رحلة ويحمان الطويلة تندرج في إطار أنشطة المرصد الذي يرأسه في فضح كل أشكال التطبيع بالمغرب، في غياب أي قانون يمنعه أو يجرمه. القانون الذي كان على مائدة البرلمان اختفى إلى غير رجعة، بعد أن رفعت الفرق البرلمانية المؤيدة له يدها عن المشروع. وحده ويحمان ومن معه بقوا على العهد سائرين من معهد ألفا للتدريب إلى نصب الهولوكست بضواحي مراكش.
اهتم "المتعهدون" بإصبع ويحمان المكسور وباعتقاله بعد تلقي العلاج بتهمة الاعتداء على رجل سلطة
كان بالإمكان أن تمر الرحلة بسلام لولا أن الأعصاب تشنجت والأيادي تشابكت، وانتهى الصراع بفيديو يوثق لحظة اعتداء الناشط السياسي على رجل سلطة؛ لم يظهر من خلال ما وثقته الكاميرا أنه اعتدى على الرجل أو منعه من تنظيم وقفته وتسجيل موقفه الرافض لحضور الشركة الإسرائيلية. وكان بالإمكان للقضية أن تطوى لولا ازدواجية قراءة الصورة وتصدير الخطاب التي دأب كثير من "متعهدي النضال" بالمغرب على تبنيه. اهتم "المتعهدون" بإصبع ويحمان المكسور وباعتقاله بعد تلقي العلاج بتهمة الاعتداء على رجل سلطة، ولا عزاء في بياناتهم ومقالاتهم لأنف رجل السلطة المكسور ولا لكرامته المهدورة؛ على حلبة أعدت في الأصل لعرض تمور المنطقة فانتهت إلى حلبة ملاكمة، بعضها كان جليا في الفيديو الموثق للتدافع بين الطرفين، وتكفل الداعون للوقفة الاحتجاجية بسرد أجزاء أخرى عن اعتداء مفترض تعرض له أحمد ويحمان وجعلوه الجزء الأساس.
المفروض أن نتبنى الجزء الخفي ونغض الطرف عن الجانب الجلّي، ونعتمد ما جاء في بيان مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين؛ الذي اعتبر أن ويحمان "لم يرتكب جرماً إلا فقط مناهضة التطبيع والصهيونية بالمغرب"، أو بيان المرصد الذي شكا من "محاولات الاستدراج إلى
العنف وتصيّد المناضلين واعتقالهم ومتابعتهم"، مؤكدا أن ذلك "لن يعدو أن يكون ضريبة من ضرائب النضال الميداني الشريف ضد التطبيع والصهيونية".
في فرنسا، وثقت الكاميرات خلال واحدة من تظاهرات السترات الصفر؛ مشاركا يوجه مدفعية لكماته في اتجاه رجل شرطة، فانتهى المطاف به سجينا رغم اعتذاره ورغم كل المزايدات والضغط الشعبي. التطبيع بالتأكيد فعل مدان، رغم أنه لا يعد جريمة بنظر القانون المغربي، لكن المؤكد أيضا أن كسر أنف رجل سلطة أو أي من موظفي الشركة المعنية بالاحتجاج أو غيرهم لم يكن ليحرر القدس أو يمنع من إغراق السوق المغربية بالمنتجات الإسرائيلية؛ لأن الحل والعقد في هذه المسألة في الرباط وليس في الأطراف.
التبريرات الجاهزة التي تجعل المخطئ من خارج السلطة ملاكا وحمامة سلام كانت دوما طريقة للتأثير إعلاميا على المتلقي. وفي باريس، حيث تمت الدعوة لمسيرة تخلد للذكرى الثالثة لانطلاق حراك الريف والدعوة لإطلاق المعتقلين على خلفيته، أقدمت مشاركة في تظاهرة، قيل إنها موازية، على حرق العلم الوطني. لم يكن بالإمكان تبرير الفعل ذاته، لكن "متعهدي النضال" لم يعدموا من حجج ظنوا أنها قد تخفف من وقع الفعل أو تحول عنه الأنظار.
التبريرات الجاهزة التي تجعل المخطئ من خارج السلطة ملاكا وحمامة سلام كانت دوما طريقة للتأثير إعلاميا على المتلقي
لقد اعتبر البعض أن الوطن الذي لا يمنح لأبنائها سبل العيش الكريم، ولا يضمن للمعارضين فرصة التعبير عن الآراء؛ يدفع بالمتطرفين من الجانب الآخر إلى المغالاة في رد الفعل الذي يكون فرديا لا يعبر عن رأي الجموع. الفيديو الموثق لفعل الحرق ورفس العلم من طرف الأطفال قبل البالغين؛ لم يظهر من الحاضرين رد فعل استنكاري. صحيح أن مبادرة كتلك هدية مجانية لكل من يسعى إلى تعطيل أي انفراجة، ولو بسيطة، في اتجاه حلحلة ملف لا يزال جاثما بثقله على الوضع الحقوقي بالبلاد، لكن "الجريمة" إن ارتكبت فلا تستحق غير الإدانة ردا؛ لأنها مساس برموز البلدان لا الأنظمة أو الحكومات.
الوضوح في المواقف والاتساق فيها بعيدا عن الكيل بمكيالين عملة نادرة. فهذا الشيخ المقاصدي أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، يخرج بمقال عن الحريات الفردية يوما فقط بعد
العفو عن ابنة أخيه هاجر؛ في الملف الذي أثار من الجدل الكثير وأسال من المداد ما أسال. الريسوني لم يجد غير التهجم على ناشطات اتخذت من قضية هاجر، بحسن نية أو دونها، ذريعة لإطلاق نقاش عمومي حول الحريات الفردية وإن اختصرنها في الجنس الرضائي والحق في الإجهاض.
صام الريسوني عن الكلام طوال فترة اعتقال هاجر وعندما تكلم نطق "كفرا"، وذهب إلى أشكال البنات دونا عن أفكارهن، واعتبرهن مجرد "خاسرات" بما للمفهوم من دلالة قدحية في المجتمع المغربي. ولتأكيد المعنى، كتب الشيخ المقاصدي قائلا: لقد رأينا مؤخرا بعض النسوة الخاسرات يرفعن لافتات تصرخ بأنهن يمارسن الجنس ويرتكبن الإجهاض الحرام. هكذا لقنوهن، مع أن الظاهر من سوء حالهن أنهن لن يجدن إلى الجنس سبيلا، لا حلاله ولا حرامه".
لقد استنكر كثيرون على الدولة إخضاع هاجر للفحص الطبي عنوة، واعتبرته الضحية تعذيبا، فأتى الريسوني ليخضع
النساء المتضامنات مع قريبته لفحص مقاييس الجمال والإثارة بما يسمح لهن بأن يجدن للجنس سبيلا، وكأن المطلوب من العائلة تدبيج مقالات في إطار صفقة ما.
أتى الريسوني ليخضع النساء المتضامنات مع قريبته لفحص مقاييس الجمال والإثارة بما يسمح لهن بأن يجدن للجنس سبيل
الهجوم على النساء ليس جديدا في كتابات وتصريحات الشيخ الريسوني، فقد كان موقفه من قضية توفيق بوعشرين واضحا حين اعتبر أن "المشتكيات" في ملف الاغتصاب "استخدمن في اغتصاب رجل في أمنه وعرضه وحريته وكرامته ومهنته". أما ما دون ذلك من معاناة مفترضة للضحايا، أقرها القضاء في الابتداء والاستئناف، فمجرد تفاصيل على الهامش.
خرجات الريسوني في المجال لا ينازعه فيها غير الشيخ الفيزازي الذي لم يترك من مخالفيه أحدا إلا وصمه بأحط الأوصاف، بدءا بهاجر الريسوني إلى النائب البرلماني عمر بلافريج، وهو الذي تصدرت "مغامراته" العناوين لأسابيع.
هي نفسها الازدواجية في القول والفعل تفقد أصحابها المصداقية، وهي زادهم الوحيد في مواجهة السلطة وأساليبها؛ والإعلام ونهشه في أعراض الناس. لكنهم بتبنيهم لمبدأ انصر أخاك ظالما أو مظلوما إنما يكرسون للضبابية في المواقف ويمنحون الجهات الأخرى، الأقوى عدة وعتادا، فرصة اللعب على التناقضات وكشف العورات أمام الأشهاد.
في غياب الحجة تنفضح الازدواجية في المواقف أمام أول امتحان. في لبنان، تحول الأمين العام لحزب الله إلى مجرد بوق يمتح من مفردات أنظمة الفساد، وهو في الأصل جزء منها، في مواجهة انتفاضة الشعوب ضد رموزها. صار نصر الله، وهو رمز لدعاة مقاومة التطبيع ونصرة المقاومة والممانعة، يتحدث عن التمويل الأجنبي للمتظاهرين ويخوف المواطنين بالفراغ والفوضى، ويرسل زبانيته لهدم وحرق خيام المعتصمين.
إلى هنا انتهت المقاومة والممانعة والمنتصرون لها.. هزُلت.