أشعر بالحزن
العميق لما آل إليه حال جامعاتنا ومراكزنا البحثية، وأظن، أن كثيرين من العارفين بهذه
الأحوال يشاركونني هذا الشعور، الذي لا تخفي على أحد أسبابه، صحيح أن بعض جامعاتنا
يحقق مراكز أفضل من السابق في التصنيفات الدولية، ولكن حتى هذه المراكز التي تحتلها،
وأفضلها قد يرد في قائمة أفضل خمسمائة جامعة في العالم بناء على معايير بعض هذه التصنيفات،
مثل تصنيف مجلة تايمز البريطانية، وتتراوح وفقا له مواقع بعض هذه الجامعات العامة بين
400 ــ600 على مستوى العالم من حيث إنتاجها البحثي وكثرة الاستشهادات بأبحاثها، وهي
مواقع تتدنى بكثير عن مواقع جامعات الصين أو الدول الصناعية الجديدة مثل سنغافورة وكوريا
الجنوبية، التي تصعد إلى مراتب أكثر تقدما بين الثلاثين أو المائة الأفضل، أو بعض الجامعات
الإسرائيلية التي تحتل مواقع بين المئتي جامعة الأفضل. ولكن أسباب الحزن تتعدى ذلك،
وتعود إلى المقارنة بالدور الذي قامت به الجامعات العامة في مصر في الماضي القريب،
والمكانة التي كانت تتمتع بها في المجتمع، ومدى فاعلية الحماية التي يضفيها عليها الدستور،
والمثل الذي تضربه للمصريين جميعا كمؤسسات تفتح الباب أمام التخفيف من حدة عدم المساواة
بإفساح السبيل للترقي الاجتماعي لخريجيها عموما، وللنابغين من طلابها على وجه الخصوص.
فلنتأمل أعزائي القراء والقارئات الدور الذي أدّته الجامعات المصرية في الماضي كمنارة للإشعاع الفكري في العالم العربي ككل، وفي قيادته على طريق الاستنارة. من ينكر أن طه حسين الذي كان عميدا لكلية الآداب جامعة القاهرة، هو واحد من أبرز رموز الاستنارة على صعيد العالم الإسلامي، وأن مصطفى مشرفة عميد كلية العلوم كان من أوائل من طرقوا باب الأبحاث النووية في بلاد العرب، وهل هناك من ينكر المكانة الدولية للدكتور عبدالفتاح القصاص في علوم البيئة والصحراء، وغيرهم كثيرون؟
لم تقتصر المساهمات الفكرية البارزة على من شغلوا وظائف التدريس في الجامعات المصرية، وإنما كان لخريجي هذه الجامعات صيت بارز. منهم مثلا عبدالرزاق السنهورى رائد التحديث القانوني ليس في مصر وحدها، وإنما في العديد من الدول العربية، ومنهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. لا أشير إلى أي منهم مسبوقا بكلمة مرحوم، لأن سجلهم حاضر بيننا على الرغم من أن عقودا مضت على رحيلهم. أعرف أن كل من ذكرتهم هم من خريجي جامعة القاهرة ليس تعصبا مني للجامعة التي أقوم بالتدريس فيها، ولكن لأنها كانت الأقدم عهدا بين كل الجامعات الحكومية في مصر. لا أعرف أحدا من بين خريجي كل الجامعات العامة والخاصة في مصر من يرتفع إلى مستوى أي من هؤلاء الرواد، وإن كنت أسعد إذا ظهر من له مثل نبوغهم.
طبعا قد يرى
البعض أنه كانت هناك ظروف خاصة شجعت على ظهور مثل هؤلاء الرواد، وهي أنهم ربما كانوا
من الأجيال الأولى التي تلقت العلم الحديث في مؤسسة جامعية مصرية، ومن ثم كانوا يشقون
طريقا جديدا أمام وطنهم والشعوب العربية والإسلامية التي تشابهت ظروفها في السعي للاستقلال
الوطني مثل مصر، وكان على من تبعوهم أن يسيروا على الطريق نفسه.
ومن ناحية أخرى، فقد
اتسع محيط المعرفة الإنسانية، وأصبح ظهور مثل هؤلاء المفكرين شبه الموسوعيين أمرا نادرا
ليس في مصر وحدها، ولكن حتى في الدول المتقدمة ذاتها، ولكن تدهور مكانة الجامعة العامة
في بلادنا لا تعود فقط إلى ندرة الرواد من بين أساتذتها وخريجيها، ولكنها تعود إلى
أمور أخرى مثل مكانة مهنة التدريس الجامعي في المجتمع، وانهيار استقلال المؤسسة الجامعية والبحثية،
وعجزها عن أن تكون سلاح الطبقات العاملة في كسر حدة التفاوت بين أبنائها وبناتها ومن
قيض لهم أن ينشؤوا في طبقات موسرة. واهتمامي بالجامعات العامة مصدره أنها تضم بين صفوفها
ثلاثة أرباع الطلاب الجامعيين، فلا يذهب إلى الجامعات الخاصة سوى 5.1% من الطلاب على
هذا المستوى، وتستوعب المعاهد الخاصة 13.6% منهم. كما أن الجامعات العامة هي المصدر
الرئيسي لأعضاء هيئات التدريس في الجامعات والمعاهد الخاصة، التي تعتمد على الانتداب
الكلي أو الجزئي من الجامعات العامة.
لم يعد التدريس في الجامعة سواء الحكومية أو الخاصة أمرا يجتذب الطامحين والنابغين من الخريجين. وضع الجامعات الحكومية معروف. دخل الأستاذ الجامعي، وأغلب الأساتذة لا مصدر لدخلهم سوى التدريس، وهو لا يكفي مقتضيات الحياة إذا كانت وظيفة الدخل لأي شخص عامل هو تمكينه من أن يعيد إنتاج ذاته، أي أن يواصل عمله، فدخل عضو هيئة التدريس الجامعي في مصر لا يكفي لهذا الغرض. عليه أن يبحث عن مصدر دخل آخر إذا كان يريد أن يجد في عمله بمتابعة الجديد في مجاله، وأن يضيف إلى هذا الجديد من خلال أبحاثه. أذكر في هذا الصدد أني التقيت في أثناء دراستي بالخارج واحدا من أساتذتي في جامعة القاهرة، وسألته عن الجديد الذي يقوم بتدريسه لطلبته بالمقارنة بالعلم الذي تلقيته منه قبل سفري من مصر، فأجابني أن انشغاله بالبحث عن الفراخ في الجمعية ولوازم البيت الأخرى يحول بينه وبين التفرغ لاكتشاف الجديد في البحث العلمي.
كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي. طبعا لم يعد العثور على الفراخ أو لوازم البيت صعبا في مصر القرن الحادي والعشرين، ولكن دخل عضو هيئة التدريس بالجامعة لا يكفي بكل تأكيد لضمان عيش كريم أو مستور له، فهو لا يكاد يتجاوز بعد عمر طويل عندما يصل إلى أعلى درجات السلم الجامعي ثلاثة عشر ألف جنيه، وهو قد لا يصل إلى نصف أو ثلث ما يتلقاه بعض طلبته حديثي التخرج. وأترك للقراء الكرام أن يحسبوا كيف وبهذا المرتب يمكن للأستاذ الجامعي أن يوفر مقتضيات الحياة الكريمة. وإذا كان هذا الدخل هو أقل من ثمانمئة دولار، فلكم أن تقارنوه بما يحصل عليه أستاذ بدرجته نفسها في أي من الدول العربية أو الأفريقية، لكي تعرفوا كيف تعامل مصر أنبغ خريجي جامعاتها. ولا داعي للقول بأن نفقة المعيشة في مصر هي أدنى من الدول الأخرى، قفد ارتفعت في السنوات الأخيرة بحيث أصبح العيش بهذه المرتبات الضئيلة تحديا صعبا لأسر الطبقة المتوسطة المصرية. ولاحظوا أن هذا هو مرتب الأستاذ الجامعي، أما مرتبات أعضاء هيئة التدريس الآخرين، فتتراوح من ثلاثة آلاف إلى تسعة آلاف، بدءا من المعيدين مرورا بالمدرسين والأساتذة المساعدين.
هذا واحد من
الأسباب التي تجعل التدريس في الجامعة مهنة لا تجتذب الكثيرين من الخريجين النابهين.
طبعا شكلت الهجرة إلى بلاد النفط فرصة للتعويض عن ضآلة المرتبات في مصر، ووسيلة لتكوين
المدخرات التي تساعد في شراء شقة لائقة أو تحمل نفقات تعليم الأولاد والبنات، ولكن
تتطاير هذه المدخرات بعد شهور أو سنوات قليلة من العودة للوطن، وتثور الحاجة للهجرة
من جديد، أو يتحايل عضو هيئة التدريس الجامعي المصرى لإطالة فترة وجوده في بلاد المهجر، ولكنه
في الغالب يدفع ثمنا غاليا لذلك، من العيش بعيدا عن الأسرة، أو تحوله إلى إنسان همه
الأساسي هو اكتناز المال. وبصفة عامة لم يشكل الوجود في بلاد المهجر فرصة لتعميق معارف
الأستاذ المهاجر. قلة ممن مروا بهذه التجربة عادوا إلى الوطن وقد أضافوا الكثير إلى
ما تعلموه في أثناء دراستهم للدكتوراه. كما لم يصبح التدريس في الجامعات الخاصة في مصر
حلا لمشكلة ضآلة دخول العاملين بالتدريس في الجامعات العامة، صحيح أن الدخل قد يكون
أعلى إذا ما كان الانتداب هو لكل الوقت، ولكن ذلك يقترن بأعباء إدارية تستغرق جانبا
كبيرا من وقت العمل الذي لا يسمح بالتفرغ اللازم لإجراء الأبحاث. ولذلك ينتهي الأمر
بالخريجين النابغين إلى العزوف عن التدريس بالجامعة ابتداء، أو الاستقالة من الجامعة
بعد فترة قصيرة من الزمن. وأعرف كثيرين من طلابي السابقين ممن فضلوا كذلك، وهو ما تكرر
في كليات أخرى ومنها الطب والهندسة. قارن ذلك الوضع بما كان عليه حال الأساتذة الذين
تلقيت العلم على أيديهم في جامعة القاهرة، وكيف كانوا يجدون في التدريس الجامعي متعة لا تعادلها متعة أخرى، ولم يكن لدى بعضهم دخل
آخر. من هؤلاء المرحوم الدكتور زكي شافعي أول عميد لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية
والمرحوم الدكتور سعيد النجار مؤسس جمعية النداء الجديد. أما في الوقت الحاضر، فقد تلاشت
الهالة التي كانت تحيط بأساتذة الجامعة، بل أصبح التدريس في الجامعة موضوعا للتندر
في الأفلام الكوميدية.
وليس هذا هو السبب الوحيد في انهيار مكانة أستاذ الجامعة في مصر، إذ تعود أسبابه الأخرى إلى فقدان المؤسسات الجامعية والبحثية تدريجيا استقلالها في اتخاذ قراراتها، أو حتى في توفير الحماية للعاملين فيها. لعلكم تذكرون كيف وقف أستاذ الجيل ورئيس جامعة القاهرة أحمد لطفي السيد إلى جانب الأستاذ العميد طه حسين عندما تعرض لشبهة الاضطهاد من جانب وزير التعليم في عهده في سنة 1934، ولعلكم تذكرون أن أساتذة الجامعة الذين فصلوا منها في الخمسينيات والستينيات وأوائل الثمانينيات في القرن الماضي، قد خرجوا من الجامعة بقرارات من السلطة التنفيذية خارج الجامعة.
أما العشرات من أساتذة الجامعة الذين فصلوا في السنوات الأخيرة، فقد فقدوا مصدر عيشهم بقرارات من مجالس الجامعات لم تأخذ بعين الاعتبار أوضاعهم الخاصة. ولذلك خسرت كثير من الكليات ليس فقط هؤلاء الذين فصلوا، ولكن خسرت أيضا كثيرين لا يريدون أن يعودوا إلى الجامعة إما احتجاجا على هذه الأوضاع، أو خشية أن يواجهوا بمثلها.
ولعل أحد الأسباب
التي تحول بين المؤسسات الجامعية ومراكز الأبحاث العلمية، قيامها بهذا الواجب مثلما
تقدم عليه النقابات المهنية، كما رأينا أخيرا في حالتي نقابة المحامين ومن قبلها نقابة
الأطباء هو فقدانها للاستقلالية التي ينص عليها الدستور في المادتين 21 و23؛ ولذلك
لا يندهش أحد أن قرارات مثل جعل تعيين المعيدين بموجب تعاقد أو ضم مدينة زويل لوزارة
التعليم العالي، قد صدرا دون تشاور لا مع الجامعات ولا مع المركز العلمي المختص في حالة
مدينة زويل، بل حتى دون شرح للرأي العام أو اعتداد بالآراء المعارضة داخل مجلس النواب.
خطورة القرار الأول أنه يسترشد بفكرة طرحها على عهد الرئيس مبارك الدكتور هاني هلال
وزير التعليم العالي في الفترة 2005ــ2011، وكان يدعو إلى جعل تولي كل المناصب الجامعية
من المعيد إلى الأستاذ بموجب التعاقد، وهو ما رفضته كل نوادي هيئات التدريس الجامعية
وقتها.
ومن شأن جعل تعيين المعيدين والمدرسين المساعدين بموجب عقد مدته مؤقتة أنه يترك تجديد التعيين في يد لجان ومؤسسات تسترشد بمعايير أخرى غير الكفاءة والجدارة، وتفتح الباب لتدخل أصحاب المصالح الخاصة في التأثير على قرارات هذه اللجان.
وهكذا يصبح الباب
الوحيد المفتوح أمام النابغين والنابغات من الطبقات الفقيرة عرضة للتنافس مع أبناء
وبنات أصحاب النفوذ، الذين قد يكونون أقل نبوغا، وبذلك تضيق هذه الانفراجة الضئيلة
في طريق الصعود الاجتماعي في مصر أمام من يملكون الموهبة والقدرة، ولكنهم يفتقدون النفوذ،
وهذا فضلا على أن طريق الصعود الاجتماعي وتضييق فجوة عدم المساواة، قد أصبح صعبا لخريجي
الجامعات العامة الذين لا يجدون لهم مكانا في سوق العمل. خطورة القرار الثاني أنه يعاقب
مؤسسة ناجحة بإخضاعها للإشراف البيروقراطي لوزارة لا نعرف من الذين يتحكمون في قراراتها
وما هي معاييرهم تحديدا.
لعلكم تدركون الآن عزيزاتي القارئات وأعزائي القراء أسباب حزني على ما آل إليه حال جامعاتنا ومراكزنا البحثية. وإذا كنتم ترون معي أن مفتاح تقدمنا في عصر المعرفة، هو تشجيع المؤسسات الجامعية ومراكز البحث العلمي، فربما توافقون معي على أن الأوضاع التي تعيش في ظلها هذه المؤسسات في وطننا ليست هي طريقنا إلى التقدم.
عن صحيفة الشروق المصرية