لم يكن أحد في المغرب يتصور أن مجرد التعبير عن رأي من قبل وزير خارجية سابق، الخارج من مسؤوليته السياسية على رأس حزب التجمع الوطني للأحرار، والذي يتقلد منصب غير رسمي يترأس فيه الاتحاد العام للمقاولين بالمغرب، يمكن أن يجلب عليه غضب وزارة الخارجية والتعاون المغربية، فتخرج ببيان حاد يوم الأحد الماضي (13 تشرين الأول /أكتوبر الجاري)، تصف فيه تصريح صلاح الدين مزوار بالأرعن والمتهور واللامسؤول.
بلاغ وزارة الخارجية المغربية، شكك في توقيت هذا التصريح ودوافعه، معتبرا أن رئيس الاتحاد العام لمقاولات المغرب لا يمكنه الحلول محل حكومة جلالة الملك في اتخاذ مواقف حول القضايا الدولية ولاسيما التطورات في هذا البلد الجار، مضيفا أن موقف المملكة المغربية بهذا الخصوص "واضح وثابت" وهو التمسك في التعاطي مع الشأن الجزائري بنهج عدم التدخل إزاء التطورات وعدم التعليق عليها.
الصحافة المغربية أصابها الذهول من اللغة القاسية لهذا البلاغ، وصارت تبحث عن نص مشاركة صلاح الدين مزوار في المؤتمر الدولي الذي عقد في مراكش، متسائلة عن الجدوى من هذه الحدة، لاسيما وأن صلاح الدين مزوار لا يحمل أي صفة رسمية، وهو يعبر في المؤتمر عن رأيه الخاص، ولا يحمل الدولة مسؤولية موقفه.
غير أنه بالرجوع إلى نص مشاركة صلاح الدين مزوار، يتبين أن الجزء المثير في كلمته لا يتعلق بالحل الذي اقترحه للأزمة في الجزائر، وإنما يتعلق بحديثه عن الاحتجاجات في المغرب العربي والأمل الذي تفتحه، وأن المسألة الجزائرية إنما عرضت للتمثيل، للتدليل على أن الحل يكمن في حل اقتسام السلطة مع الإسلاميين، الذين وصفهم مزوار بكونهم القوى الأكثر تنظيما في المنطقة، وأن القوى السياسية التاريخية أصبحت مرفوضة من قبل المحتجين الذين نزلوا إلى الشارع، وهو ما يحمل إشارة إلى المغرب أيضا، لاسيما وأن توقيت التصريح تزامن مع العرس الديمقراطي الذي تشهده تونس.
صلاح الدين مزوار، تفاعل بشكل سريع مع بلاغ وزارة الخارجية المغربية، وأعلن استقالته الفورية، معللا قراره باعتبارات شخصية، دون الإشارة إلى بلاغ الخارجية ولا إلى ما تضمنه تصريحه الذي جلب عليه غضبها، ليبقى السؤال الذي أثار جدلا كبيرا في المغرب: ما سبب غضب الخارجية؟ وما الشيء الذي أثار غضب الخارجية في تصريح مزوار؟ وهل حديث شخص استقال من رئاسة التجمع الوطني للأحرار، وخرج من وزارة الخارجية، ولم يعد يتحمل أي مسؤولية رسمية، عن الوضع الداخلي للجزائر هو الذي يبرر غضب الخارجية؟ أم أن موضوع الإسلاميين هو السبب في ذلك؟ أم أن وراء ذلك أسبابا أخرى تتعلق بخروج صلاح الدين مزوار عن الخطوط الحمر التي تعود على عدم تجاوزها؟
انتصار لواجب التحفظ أم ضمان الحق في حرية التعبير؟
بلاغ وزارة الخارجية، أثار جدلا كبيرا، وموجة انتقادات واسعة، وفجر سؤالا مهما بخصوص سلوك الدولة في التعامل مع الشخصيات التي تحملت المسؤولية في دواليبها وغادرتها، وهل يطلب منها البقاء في موقع التحفظ؟ أم يكفل لها الدستور والقانون حرية التعبير؟ وهل يسوغ لوزارة الخارجية أن تصدر بلاغا بهذه الحدة في حق صلاح الدين مزوار لمجرد أنه عبر عن رأيه؟ أم أن موقعه القديم لا يسمح له بالخوض في هذه القضايا الداخلية للدول، خاصة إذا كانت تمر بأوضاع حساسة، وكانت علاقتها بالمغرب مشوبة بكثير من التوتر وسوء الفهم..
السيد منار السليمي، أستاذ القانون الدستوري بجامعة محمد الخامس بالرباط، ورئيس المركز الأطلسي للدراسات الاستراتيجية والتحليل الأمني، انتصر لبلاغ وزارة الخارجية، واعتبر في تدوينة نشرها على حسابه في "الفايسبوك" الأحد الماضي، أن تصريح صلاح الدين مزوار حول الوضع في الجزائر خطير وغير محسوب، وأن من شأنه أن يرفع سقف الأزمة في العلاقات المغربية ـ الجزائرية، وأن هذا التصريح يأتي في وقت تعيش فيه هذه العلاقات المغربية ـ الجزائرية نوعا من الهدوء منذ سقوط نظام بوتفليقة، وأن تساؤلات عديدة تثار حول توقيته داخل منتدى يجمع العديد من السياسيين والاقتصاديين والخبراء من مجموع العالم.
منار السليمي علل موقفه بكون صلاح الدين مزوار سبق أن شغل منصب وزير الخارجية، ورئيس أكبر تجمع اقتصادي ومالي في المغرب، وأنه كان يفترض فيه التحفظ في تصريحاته، وأن يضع نصب عينيه المبدأ الذي يلتزم به المغرب في إدارة علاقاته الخارجية مع الدول، وهو عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، معتبرا بهذا الخصوص أن دعوة المؤسسة العسكرية بالجزائر أمام ملتقى دولي بأن تتقاسم السلطة مع المحتجين يعد تصريحا خطيرا من المتوقع جدا أن يتم توظيفه من طرف السلطات الجزائرية، لاسيما وأن قائد صالح رئيس أركان الجيش الجزائري رد بطريقة قوية منذ أيام على بعض أعضاء البرلمان الأوروبي، وأن شخصيات دبلوماسية سابقة من دول كثيرة تجنبت التعليق على الأوضاع في الجزائر لأنهم يدركون حساسية الجزائريين تجاه التصريحات الخارجية في الشأن الداخلي الجزائري..
من جانبه انتقد خالد حري، رئيس تجرير جريدة "الصباح"، المقربة من أوساط رجال الأعمال، وأيضا من التجمع الوطني للأحرار، بشدة في افتتاحية جريدة الصباح، طريقة الخارجية في التعاطي مع تصريح مزوار، والألفاظ المستهجنة التي استعملها بلاغها، معتبرا أن الاتفاق أو الاختلاف مع تصريح مزوار لا يبرر إسقاط حقه في واجب الاحترام له وللخدمات التي قدمها لبلده من مواقع مختلفة.
خالد الحري، اعتبر أنه على افتراض تجاوز مزوار لحدود اللياقة في الحديث عن الشأن الداخلي الجزائري، فإن الأمر لم يكن يستدعي أن تصفعه وزارة الخارجية بتلكم الألفاظ القاسية والحادة، بقدر ما كان يتطلب الأمر معالجة الموضوع في القنوات الديبلوماسية الداخلية، وعبر حوار هادئ مع رجل كان، إلى وقت قريب، وزيرا للخارجية والمالية والصناعة والتجارة وتأهيل الاقتصاد ورئيس حزب مغربي يشارك في الحكم.
بل إن خالد الحري ذهب أكثر من ذلك، ورأى أنه ما دام الرجل لم يعد يتحمل أي مسؤولية رسمية، ولم يعد ملزما بواجب التحفظ، فإن صدور بلاغ من الخارجية بتلكم اللغة الحادة ضده يعتبر اعتداء صريحا على حرية الرأي والتعبير، وخرقا لحق إنساني في الاختلاف مع هيئة أو نظام سياسي، وأن ما عبر عنه مزوار هو جزء من النقاش العمومي لأغلب المغاربة، الذين يعتبرون قضية الجزائر شأنا داخليا مغربيا، كما يعتبر الجزائريون الكثير مما يجري في المغرب يمسهم مباشرة ويتابعونه في إعلامهم وقنواتهم السياسية والديبلوماسية.
أما رجل الأعمال والقيادي اليساري، كريم التازي، فقد قدم تفسيرا مختلفا لبلاغ وزارة الخارجية، فقد اعتبر أن صلاح الدين مزوار هو كائن مخزني، وأنه ملك للدولة، وقد نسي هذه الحقيقة، فأراد بلاغ الخارجية أن يذكره بها، مشيرا إلى أن من دخل إلى دار المخزن لا ينبغي أن يخرج منها، وأنه لا يمكن الجمع بين أن تكون ملكا للمخزن وأن تكون لك استقلالية في الرأي مرة واحدة.
غضب عن التدخل في الشأن الجزائري أم عن موقفه الجديد من الإسلاميين؟
ولم يتوقف الجدل عن هذه الحدود، بل ذهب البعض إلى التشكيك في علاقة بلاغ وزارة الخراجية الغاضب من صلاح الدين مزوار بالوضع في الجزائر، وأن الأمر يرتبط أكثر بالموقف من الإسلاميين منه بالتدخل في الشأن الجزائري.
عبد الصمد بلكبير المحلل السياسي، والأستاذ بجامعة القاضي عياض، اعتبر في تصريح لـ "عربي21"، أن سبب الغضبة على مزوار واستقالته من الاتحاد العام للمقاولين بالمغرب، هي أكبر من التعليق عن الوضع في الجزائر الشقيقة، والتي لم يصدر عنها إلى حد الآن أي رد فعل أو احتجاج، موضحا أنه حين تكون على مر عقدين من الزمن وزير صناعة وتجارة، ثم مالية واقتصاد، وبعدها الخارجية والتعاون، ثم تترأس نقابة رجال الأعمال، وتخرج بكل ثقة للقول بأن القوى الوحيدة المنظمة في الدول المغاربية هي القوى والحركات الإسلامية، وأنها ستواصل تدبير وتوجيه السياسات مستقبلا بهذا الفضاء في الجزائر وتونس والمغرب، وتقول هذا الاستنتاج الحساس أمام كبار المستثمرين وصناع القرار الدوليين، فإن ذلك بالتأكيد لن يقع في أذن أصم كما يقول المثل الفرنسي.
أما مصطفى الفن، الصحفي ومدير موقع "آذار" الإلكتروني، فقد اعتبر في تصريح لـ "عربي21"، أن قضية التدخل في الشأن الجزائري ليست هي ما جر الغضبة على مزوار، وأن سببها هو أنه تعدى الحديث عن الوضع في الجزائر، وتحدث عن المنطقة بما في ذلك المغرب، ورفع سقف توقعاته عاليا حين توقع في نبوؤته المرة بلغة الواثق أن الحكم وتدبير الشأن العام بدول المنطقة المغاربية بما فيها المغرب سيؤول مستقلا لا محالة إلى الحركات الإسلامية، لأنها في نظره هي الحركات الوحيدة المنظمة بشكل جيد ولها تجذر وسط المجتمع.
المثير في تحليل مصطفى الفن، أنه شكك في أن يكون ما قاله مزوار هو رأي وتقدير شخصي، وأن خطيئته أنه اختار توقيتا غير مناسب للحديث عن أسرار جلسات خاصة قد يكون تردد فيها مثل هذا الكلام حول التعامل مع حركات الإسلام السياسي.
مفاد هذا الكلام، أن الغضبة لم تكن على تصريحه عن الوضع الجزائري، ولا حتى عن الرأي الذي أبداه عن الإسلاميين، ولكن لكونه أفشى ما ليس مسموحا له بإفشائه، مما سمعه في جلسات خاصة، بخصوص تقدير الدولة للتعامل المستقبلي مع الأحداث، وأن ثمة قناعة في دوائرها أن دور الإسلاميين سيتعزز أكثر، وأن الحاجة للاستقرار ستستدعي مزيدا من التفاهم مع الإسلاميين وتقاسم السلطة معهم، وأن هذه الدوائر المحافظة، رفضت بكل شدة أن تخرج للعلن ما تفكر فيه سرا.
الديني والسياسي في الانتخابات التونسية.. حزب الرحمة نموذجا
شيعة المغرب.. ممانعة الواقع وانسداد الأفق (2من2)
شيعة المغرب.. ممانعة الواقع وانسداد الأفق (1 من 2)