أن ينجح أكاديمي
ومثقف مجهول ليست له قاعدة شعبية في الجولة الأولى للانتخابات
التونسية (د. قيس سعيد)، فهو أمر قابل للتفسير والفهم بل والقبول، أما أن يكون من يليه في النجاح
ثري فاسد ومفسد ومعروف عنه ذلك تأكيدا وليس اتهاما، فذلك مما يلقي في وجوهنا جميعا علامة استفهام كبيرة وقديمة، ليس عن تلك
الديمقراطية التونسية فقط، ولكن عن فكرة الديمقراطية برمتها، سواء كثقافة وسلوك أو كوسيلة يتم بها اقتسام عادل للقوة والثروة والسلطة في المجتمعات.
عام 2002م صدر كتاب هام حول هذا المعنى، يتساءل عن موت الديمقراطية وانتهاء
السياسة وتغول الرأسمالية والشركات العملاقة على البشر والحجر، محذرا من أن فكرة الديمقراطية بكل تاريخها وتطبيقاتها السياسية والاجتماعية والثقافية تكاد تذهب سدى، وتتحول إلى مادة للادعاء والثرثرة وتنتهى للموت. الكتاب اسمه "السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية"، أصدرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية في العدد 336، وترجمه لنا الراحل الكبير د. صبحي حطاب.
مؤلفة الكتاب سيدة وأكاديمية مهمومة بالإنسان وشأنه ومصيره في عالم تملأه وحوش الأفكار الكاذبة والأموال الفاسدة والأخبار المضللة، إنها د. نورينا هيرتس، الاقتصادية المرموقة وصاحبة الدكتوراة من كامبريدج، والتي أرادت أن تقول من خلال هذا الكتاب الهام كلمة موجعة عن الرأسمالية التي تشجع الحكومات على بيع مواطنيها بثمن بخس، حيث تخسر الأغلبية فيها وتربح الأقلية، أرأيتم وجوه الخداع! مؤكدة أن تلك السيطرة تُعرض الديمقراطية للخطر، وأن وضع الشركات الكبرى في الصدارة يعرّض شرعية الدولة نفسها للخطر؛ حين تتولى هذه الشركات أدوار الحكومات، حيث السيطرة على الشعوب من خلال البرلمانات والتشريعات والسياسيين من أهل السلاطة واللسانة والكاريزما الخادعة، محذرة من الرؤى المتطرفة لليمين الجديد وأفكاره ومنظريه وفلاسفته.. وهي الرؤى التي صاغت سوقاً حرة منفلتة من كل الضوابط، مُحوّلة الدولة إلى متفرج مكتوف الأيدي، والمواطنين إلى أصوات بلا تأثير؛ في عالم تتحكم به رؤوس الأموال والشركات العملاقة.
تذكر لنا هيرتس في الكتاب أن نهاية الحرب الباردة في نهاية الثمانينيات كانت أيضا نهاية دولة السياسة وبداية دولة الشركات، وتم تحطيم العقد الضمني القائم بين الدولة والمواطن الذي هو أساس المجتمع الديمقراطي، وانتشرت تلك الشركات العابرة للقارات في أمريكا وأوروبا، أيضا في أمريكا اللاتينية والشرق الأقصى والأوسط..
بات الناس لا يثقون بالمؤسسات والدولة كمظلة رعاية وحماية كما كانوا قبلا، وتشير هنا إشارة خطيرة إلى قصة السياسة والسلطة، وهو تراجع نسب المقترعين في
الانتخابات العامة والذي يعكس أحد أسوأ أعراض "الدولة الشركاتية".
كانت هيرتس كزرقاء اليمامة وهي تحذر من الرؤى المتطرفة لليمين الجديد في الغرب، والتي صاغت مفاهيم عن الاقتصاد والاجتماع الإنساني منفلتة من كل الضوابط.. سنرى في ثنايا ذلك أكبر عورة في هذا المشهد الإباحي، وهو الإعلام ووسائله ذات الجبروت الطاغي في تشكيل أفكار وأراء البسطاء من "الجماهير الغفيرة"، وستلفت أنظارنا إلى الدور الكذوب الذي أخذت الشركات الكبرى تضطلع به بدلا من الدولة، كتوفير التكنولوجيا للمدارس، وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية للمجتمع، وما يستتبعه هذا بطبيعة الحال من سيطرة تمارسها هذه الشركات على الجهات المستفيدة من هذه الخدمات.
وسيكون العام 1979 التدشين الرسمي للطور الرأسمالي الجديد، وذلك مع انتخاب مارجريت تاتشر في بريطانيا وريجان في أمريكا، وإعلان تبنيهما لليمين الجديد، محدثين انقلاباً شبه جذري في كثير من المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية السائدة في الغرب. إذ تم الإعلان بوضوح سافر عن نهاية مفهوم الدولة المتدخلة في شؤون المواطنين، ولمعت أسماء في عالم الاقتصاد ميلتون فريدمان (الفائز بنوبل في الاقتصاد عام 1976)، وفون هايك (صاحب كتاب "مكون الحرية")، وكارل بوبر (صاحب كتاب "المجتمع المفتوح وأعداؤه")، وغيرهم من المؤمنين بأن السوق الحرة قادرة بشكل أفضل من الدولة على توزيع البضائع والخدمات، وأن محاولات الحكومة لمحاربة إخفاقات السوق تؤذي أكثر مما تفيد. كانوا في الحقيقة يقدمون تنظيرا فكريا وأيديولوجيا للأسوأ القادم بعد قليل.
سينقل القرار السياسى بكل مكوناته ومتطلباته في ظل هذه الظروف إلى أيدي الشركات الكبرى التي صارت تتحكم بكل شيء، حتى بالعلاقات الخارجية، وصارت السياسة مجرد واجهة للكارتلات (تحالف الشركات الكبرى) التي تشتري سياسيين وأحزاباً وبرامج انتخابية ومثقفين وأكاديميين وفنانين وصحفيين. وهنا تسأل هيرتس سؤالها الأهم: ما الذي تعنيه الديمقراطية إذاً، إذا كان السياسيون بمختلف أحزابهم ينطقون باسم الشركات ومصالح الشركات؟ وما معنى التقسيمات التقليدية بين اليمين واليسار إذا كانت البرامج في كل الأحوال هي برامج الشركات العملاقة؟
وتحذرنا وتنذرنا إنذار الصديق، كما يقول الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، من المرحلة الأخيرة من السيطرة وهي "نهاية السياسة" نفسها، إذا بقينا عالماً يقترف مثل هذا القبح والانحراف في السلطة، والذي تموت فيه الديمقراطية نفسها حتى عند تلك الدول التي تفاخر بأنها ديمقراطية.
وقد رأينا في مصر عهد مبارك مثالا من أفدح وأوضح أمثلة سيطرة رأس المال والشركات على المجال العام، والادعاء كذبا وزورا بأن ما يقوم به هو السياسة والديمقراطية والتقدم للصالح العام (رجل الأعمال وتاجر الحديد الشهير
أحمد عز)، وسيطرته بأمواله ثم نفوذه وإخضاعه لمن حوله بذل الطلب، كما يقال. وها نحن نرى مثل ذلك في تونس (نبيل القروى رجل الأعمال والابن الوفي لشركات هنكل العالمية). الاثنان يمثلان الصورة القبيحة التى حذرتنا منها نورين هيرتس في كتاب لم يقرأه لا هذا ولا ذاك. وتبقى فكرة الديمقراطية ودولة السياسة نفسها على المحك السحيق، لتطرح أصعب سؤال في التاريخ الحديث للإنسان عن السلطة والمجتمع والأفكار والبشر، رغم كل حرف خطه قلم عن ذلك الموضوع.