لم يكن ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، بليغاً في شيء، وهو يكسر صمت سنوات من جانبه مؤخراً، قدر بلاغته في العبارة التي وصف بها موقف بوريس جونسون، رئيس الوزراء الحالي، ومعه مواقف عدد من الساسة الإنجليز، وقت الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016!
وكأن كاميرون قد أراد أن يصف ساسة بلاده المخادعين، بما لا ينساه الرأي العام أبداً، فوصفهم وهو يتحدث إلى صحيفة «التايمز» البريطانية، عن مذكراته التي ستصدر قريباً، بأنهم: تركوا الحقيقة في البيت!
وقد شرح ما يقصده بوضوح أكثر، فقال ما معناه إنهم قد راحوا في ذلك الوقت يروّجون لأكاذيب كثيرة بين الناخبين في البلاد!.. فلما ذهب الناخبون أنفسهم للاقتراع على الخروج البريطاني، تأثروا بالطبع بما كانوا قد سمعوه في حملات الترويج من جونسون، ومن رفاق له شاركوه ذات السلوك!
وأريد من جانبي أن أجعل الدائرة أوسع، فلا أتوقف بالعبارة عند نطاقها البريطاني في حدوده، وإنما أنقلها إلى النطاق الأوروبي الأرحب، فتبدو منطبقة تماماً على موقف أخير تجاه إيران، صدر عن بريطانيا، ومعها فرنسا، وألمانيا، وممثلة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي!
ذلك أن خروج البريطانيين من الاتحاد ليس هو موضوع هذه السطور، لأن البيان الذي صدر السبت عن الأطراف الأربعة يقول بأوضح لغة، إن المسؤولين الأربعة الذين وضعوا إمضاءاتهم على البيان، إنما تركوا الحقيقة كاملة في البيت، عندما جلسوا يوقعون من بروكسل؛ حيث مكتب ممثلة السياسة الخارجية في الاتحاد، ومن لندن، ومن باريس، ومن برلين، عواصم الدول الثلاث!
البيان أبدى قلق الدول الثلاث العميق، ومعه قلق ممثلة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وهو عميق أيضاً بدوره، من خطوات إيرانية تتخذها حكومة المرشد في طهران، وصولاً إلى تسريع إنتاج اليورانيوم المخصب بدرجات عالية!
فما الحقيقة التي تركوها في البيت دون أن ينتبهوا ربما؟!
هذه الحقيقة هي أن الدول الثلاث كما يذكر الجميع، كانت طرفاً مباشراً في الاتفاق الذي جرى توقيعه مع إيران، أيام إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وهو اتفاق كان يؤجل وصول حكومة الملالي إلى إنتاج سلاح نووي، ولا يوقفه أو يمنعه!
ولو توقف الأمر عند هذا الحد ما كانت هناك مشكلة تقريباً، لأن العواصم الثلاث يمكن أن تبرر توقيعها على الاتفاق بأنه كان اتفاقاً بين مجموعة دولية، اشتهرت وقتها بأنها مجموعة الخمسة زائد واحد، وكانت تضم الدول الخمس صاحبة العضوية الدائمة في الأمم المتحدة ومعها ألمانيا، وبين الحكومة الإيرانية، ولم يكن بين هذه الأخيرة وبين الدول الثلاث على وجه الحصر!
يمكن أن يقال هذا على سبيل التبرير، فيكون صحيحاً ولا شيء فيه، غير أن الصحيح أيضاً بالدرجة نفسها أن إدارة الرئيس دونالد ترامب لما دعت أوروبا عموماً، والدول الثلاث خصوصاً، إلى اتخاذ موقف واضح من تهديد إيران الملاحة البحرية في الخليج العربي، كان التخاذل هو رد الفعل التلقائي من ناحية الدول الثلاث، وأكاد أقول إن التخاذل كان هو رد الفعل الثابت المعلن في وقت واحد!
وإذا رد أحد هنا مدافعاً عن الموقف البريطاني، بأنه كان في صف الولايات المتحدة، فسوف أعيد تذكير هذا الأحد، بأن واشنطن لما طلبت من لندن عدم الإفراج عن ناقلة البترول الإيرانية «غريس 1» التي غيرت اسمها إلى «أدريان داريا 1» والتي كانت السلطات البحرية البريطانية قد احتجزتها في مضيق جبل طارق، فإن بريطانيا لم تستجب للطلب الأميركي، وأطلقت سراح الناقلة تتجول في أنحاء البحر المتوسط، وتتنقل بين موانئ وشواطئ الدول التي تطل على البحر!
وقد خالف البريطانيون الولايات المتحدة، على غير عادتهم معها، أملاً ربما في مقايضة الإفراج عن «أدريان داريا 1»، بالإفراج عن الناقلة البريطانية التي احتجزها الإيرانيون في ميناء بندر عباس الواقع جنوب الخليج، غير أن هذا لم يحدث إلى الآن لسوء حظ الإنجليز!
وعندما تلقت العاصمة الألمانية طلباً أميركياً بتشكيل تحالف دولي بحري يحمي الملاحة في الخليج، لم يختلف رد الفعل الألماني على طلب الانضمام إلى التحالف، عن رد الفعل الإنجليزي على طلب الإبقاء على الناقلة قيد الاحتجاز في جبل طارق، وقال الألمان ما معناه إنهم إذا شاركوا في تحالف من هذا النوع في المنطقة، فلن يكون تحت قيادة أميركية!
وكان ذلك يعني رفضاً غير مباشر للفكرة كلها، لأن النتيجة كانت أنهم لم يشاركوا في تحالف بحري تحت قيادة أميركية، ولا في تحالف تحت قيادة غير أميركية!
وأما فرنسا فإنها تعاطت مع إيران بطريقة خاصة لم تعجب الأميركان، فلما أبدى ترامب انزعاجه من الطريقة، رد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقال بأن بلاده ليست في حاجة إلى نصيحة من أحد تسترشد به في علاقتها مع الإيرانيين!
وهناك بالطبع دول أخرى بخلاف الدول الثلاث، كان لها موقف الثلاث دول نفسه، ولكنها لم تخرج إلى الإعلام لتتكلم بعكس مواقفها على الأرض، وهو الشيء الذي فعلته العواصم الثلاث في بيانها مع ممثلة السياسة الخارجية في الاتحاد!
إنها تُبدي قلقها العميق من خطوات إيرانية تتناقض مع التزامات طهران في الاتفاق الموقّع بينها وبين مجموعة الخمسة زائد واحد. والحقيقة أن هذا القلق العميق لا محل له من الإعراب، لأن أصحابه يتركون الحقيقة في البيت، كما تركها رئيس الوزراء البريطاني ورفاقه، وقت أن روّجوا بشيء لعملية الخروج الشهيرة بـ«البريكست» في البداية، ثم خرجوا هذه الأيام بأشياء تتناقض مع الشيء الأول!
وهكذا كانت العواصم الثلاث التي تخاذلت أمام نداء تشكيل التحالف البحري، ثم أحست بالقلق العميق من سلوك قامت به الدولة نفسها، التي يريد التحالف وقف عبثها بأمن الخليج وأمن المنطقة عند حدوده. إنها حقيقة تركها مسؤولو الدول الثلاث، ومسؤولة الاتحاد، وكان أجدى ألا يتركوها منذ النداء الأول لتشكيل التحالف، لعل هذه المنطقة تعرف الهدوء، ومن ورائها يعرفه العالم!
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية