منذ مطلع التسعينيات، وبعد أربعة عقود على رحيل "مهاتما غاندي"، الأب الروحي لحركة استقلال الهند، بدأ انحراف مريب في توجهات نيودلهي وطبيعة طبقتها السياسية، بعيدا عن مبادئ رفض العنصرية والاستعمار.
الكاتب والصحفي "آزاد عيسى"، كبير محرري صحيفة "ميدل إيست آي" البريطانية، ألقى في مقال ترجمته "عربي21" الضوء على ذلك التحول، الذي وصل اليوم إلى مرحلة استنساخ الصهيونية، بحسبه.
ويأتي ذلك التحول بعد أن كانت الهند من الدول التي دفعت نحو إقرار الأمم المتحدة قرارا تاريخيا، منتصف السبعينيات، يصف الصهيونية بأنها أيديولوجيا إقصائية تصنف الفلسطينيين على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
وتاليا نص ترجمة المقال:
"هندوتفا"، الأجندة القومية الهندوسية، و"الصهيونية"، تشتركان في طموح واحد، وهو إقامة دولة ديمقراطية عنصرية ذات ثقافة واحدة وعرق واحد وأمة واحدة.
في شتاء عام 1975، أجازت الأمم المتحدة قرار رقم 3379 والذي يصرح بأن الصهيونية شكل من أشكال التمييز العنصري.
وكان قرار 3379 قد أشار إلى قرار تبنته منظمة الوحدة الأفريقية (التي تسمى الآن الاتحاد الأفريقي)، يجري مقارنة بين المشاريع العنصرية والاستعمارية في كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل.
حيث نص قرار منظمة الوحدة الأفريقية رقم 77 (في الفقرة 12 منه) على ما يلي: "ينحدر النظام العنصري الذي يحتل فلسطين والنظام العنصري في كل من زمبابوي وجنوب أفريقيا من أصل إمبريالي واحد، كما أنهما يشكلان نفس الكيان العنصري ويرتبطان عضوياً في سياستهما الهادفة إلى انتهاك كرامة وقيمة الكائن البشري واضطهاده".
قرار تاريخي
كانت الهند واحدة من اثنتين وسبعين دولة، معظمها مستعمرات سابقة، هي التي أنجبت القرار التاريخي الذي خلص إلى أن الصهيونية في الأساس أيديولوجيا إقصائية تصنف الفلسطينيين على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
حينها كانت الهند جزاء من حركة عدم الانحياز أثناء الحرب الباردة، وكانت تلعب دورا أساسيا في عزل جنوب أفريقيا، الدولة الأكثر تواطؤا مع إسرائيل.
لم تلبث الحرب الباردة أن وضعت أوزارها بعد ستة عشر عاما وأصبح العالم مكانا مختلفا تماما.
وفي عام 1991، اشترطت إسرائيل مقابل مشاركتها في مؤتمر مدريد للسلام في نفس ذلك العام أن تبطل الأمم المتحدة قرارها الذي يعتبر الصهيونية حركة عنصرية، مما أجبر الأمم المتحدة على إجراء تصويت جديد حول الموضوع. وبذلك أبطل قانون 3379 وكانت الهند من الدول التي صوتت لصالح إبطاله أيضا.
تبع ذلك في عام 1992 إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الهند وإسرائيل. وقد أدى تحرير اقتصاد الهند إلى تحولات في سياستها الخارجية وإلى تبديل أولوياتها في الساحة الدولية.
ثم بدأت الهند في تعزيز علاقات أوثق مع إسرائيل في معزل عن التزامها بعملية السلام مع الفلسطينيين، بينما ظل نمط تصويت نيودلهي بشأن عملية السلام كما هو دون تغيير داخل أروقة الأمم المتحدة.
وبينما كانت الهند ذات يوم تعتبر الصهيونية، تلك الأيديولوجيا التي تقوم على أساسها دولة إسرائيل، شكلا من أشكال العنصرية، شهد التفاهم المستمر بين الهند وإسرائيل في شؤون الدفاع، وخاصة في ظل الحرب على الإرهاب، تآكلا لتضامنها مع الفلسطينيين منذ مطلع الألفية الحالية، بحيث لم يبق منه سوى المجاملات ودبلوماسية الاحترام المتبادل.
ثم جاء نارندرا مودي.
صعود الهندوتفا
في عام 2014، أصبح السياسي الهندوسي القومي رئيس وزراء الهند الجديد.
وبكونه عضوا مخضرما في الجماعة اليمينية المتطرفة التي تسمى راشتريا سوايامسفكا سانغ (آر إس إس)، والتي طالما راودها حلم تحويل الهند إلى راشترا هندوسية، أو دولة هندوسية، جلب مودي عملية إعادة تشكيل الهند على صورة أغلبيتها إلى أعلى مستويات الحكم في الدولة.
وكانت جماعة آر إس إس هي التي أنجبت الهندوتفا، والتي تمثل الأجندة الهندوسية في القلب من الهند كما يراها مودي، رغم أن الهندوتفا أبعد ما تكون عن الممارسات أو العقائد الهندوسية ذاتها.
ورغم أن جماعة آر إس إس وجدت مصدر إلهام لها في شخص أدولف هتلر وفي "القومية الثقافية" و "الكبرياء العرقي" للنازية، إلا أن مودي ونتنياهو سرعان ما وجدا رابطا يجمعهما يتمثل في حماستهما لإنجاز هدف مشترك ألا وهو إحكام قبضتهما التامة والمطلقة على المناطق التي يحكمها كل منهما.
كما تعارفا فيما بينهما على ما يجمعهما من أوجه شبه تتعلق بطموح كل منهما لإقامة دولة ديمقراطية عنصرية ذات ثقافة واحدة وعرق واحد وأمة واحدة.
سرعان ما ترجمت العلاقة إلى تبادل تكنولوجي وزراعي وشراكات جديدة في مختلف المجالات. ورغم أن الهند كانت تشتري الأسلحة من الهند لما يقرب من عقدين إلا أنها في عهد مودي أصبحت تستورد ما يقرب من 46 بالمائة من كل ما تبيعه إسرائيل من سلاح، حتى باتت إسرائيل اليوم أكبر مزود للهند بالأسلحة، بما تقدر قيمته بحوالي مليار دولار أمريكي سنوياً.
وبحسب ما صرح به لموقع ميدل إيست آي أبورفا بيه جي، منسق جنوب آسيا في حركة المقاطعة بي دي إس، فإن الهند الآن ضالعة بشكل عميق جدا في منظومة الاحتلال العسكري والاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري في إسرائيل.
وبزيارة مودي إلى إسرائيل في 2017، وكانت الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس وزراء هندي أثناء وجوده على رأس عمله، تبددت كل الشكوك التي كانت تحوم حول مدى التزامه تجاه إسرائيل. وكان نتنياهو قد وصف الزيارة بأنها قد "أطاحت بآخر الجدران التي تفصل بين بلدينا".
منذ ذلك الحين، انتعشت أيما انتعاش الصلة بين الهندوتفا والصهيونية باعتبارهما أرواحا متعانقة، وكما أن أي انتقاد لإسرائيل أو الصهيونية يوسم بأنه معاداة للسامية، بات أنصار الهندوتفا يشهرون سيف الهندوفوبيا في وجه كل من ينتقد أيديولوجيتها أو يندد بها.
غاندي وإسرائيل
في مناسبة نظمها القنصل العام الإسرائيلي في مومباي بالاشتراك مع جمعية الصداقة الهندية الإسرائيلية في السادس والعشرين من آب/ أغسطس، والتي يمكن بكل بساطة اعتبارها الأولى من نوعها، احتفى متحدثان عقائديان بالعلاقة الوثيقة ما بين الهندوتفا والصهيونية.
بينما أمتع المؤرخ الصهيوني غادي توب، المحاضر في الجامعة العبرية، الجمهور بالحديث عن إخفاقات التعددية الثقافية والحاجة إلى هوية قومية أحادية، لجأ سوبرامانيام سوامي، عضو البرلمان عن حزب بهاراتيا جاناتا، إلى نظرية "صدام الحضارات" لصامويل هانتنغتون ليفسر حاجة الصهيونية والهندوتفا إلى العمل معاً في مواجهة عدو مشترك.
قال سوامي: "إن صهيون اليوم يتعرض لهجوم من قبل المتطرفين الإسلاميين، ولذلك فإنه يتوجب علينا كلينا أن نجتمع معا في محاربة قوى الإرهاب الإسلامي".
كان أقرب ما وصل إليه توب عند حديثه عن السياسات الهندية السابقة – حينما كانت جماعة آر إس إس محظورة – عندما قال إنه "يوجد الكثير مما يثير الإعجاب بشخصية المهاتما غاندي، وكثير من الإسرائيليين معجبون به فعلا، إلا أنه لم يكن نصيرا للصهيونية".
لعل من أفحش التناقضات والمغالطات التاريخية أن يعمد توب إلى ذكر غاندي – متجاهلا بكل بساطة أنه قتل على يد متطرف هندوسي ينتمي إلى جماعة آر إس إس بحجة رفضه لتبني فلسفات عنصرية إقصائية استوحتها هذه الجماعة آنذاك من النازية كما تستوحيها اليوم من الصهيونية.
ولكن ما هي الفاشية إن لم تكن ثلم المنطق؟
من المؤكد أن توب يدرك أن طبقية المواطنة التي تمارس في بلده باتت النموذج الذي يرغب القوميون الهندوس في استنساخه. فكما أن غير اليهود يحولون إلى أكباش فداء ويعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية في إسرائيل وحيث يتم طمس التاريخ الفلسطيني ويزال كل ذكر له في الكتب المدرسية، هذا هو الذي يسعون إلى تطبيقه الآن في الهند.
كشمير وفلسطين
في الهند، ورغم الحديث عن المواطنة المتساوية، لا يمكن للمسلمين والمسيحيين بحال أن ينتموا إلى "العرق الهندوسي"، ولذلك فهم يتعرضون لضغوط مستمرة لإثبات "ولائهم" للدولة الهندوسية. ويعتبر تاريخهم أيضاً مخز وشاذا بالنسبة للهند الهندوسية، الأمر الذي يستدعي إجراء تعديلات على الكتب والمناهج الدراسية.
مثل هذه المراجعات التاريخية، كما يشير كثير من المعلقين، لا تخدم سوى مصالح الحزب الحاكم.
وحتى قرار ضم كشمير الذي صدر في مطلع أغسطس ما هو إلا جزء من تعهد قطعته على نفسها جماعة آر إس إس بالعمل على توحيد جميع الحضارة الهندوسية والتي تم سحقها، كما تدعي الهندوتفا، تحت أقدام الأجانب، ويقصد بهم المسلمون.
وكما كتب كابيل كوميريدي في صحيفة الواشنطن بوست، كان إجراء مودي في كشمير بمثابة رسالة موجهة إلى الجميع ومفادها أنه "لن يعفى أحد من العيش في فردوس السلطة الهندوسية التي يرغب في إقامتها في كل أنحاء شبه الجزيرة الهندية. وبذلك تمثل كشمير إنذاراً ونموذجاً في نفس الوقت: فأي ولاية تشذ عن هذه الرؤية سوف يُؤتى بها وتُدخل عنوة إلى بيت الطاعة في دلهي باسم الحفاظ على الوحدة".
وكل من يصنفون على أنهم "منتحلون" فسوف يحكم عليهم بأنهم معادون للوطن أو بكل بساطة سوف يمسحون من الوجود. وفعلا، لقد تم في الأسبوع الماضي نزع الجنسية عما يزيد عن 1.9 مليون شخص، أغلبيتهم العظمى من المسلمين، في ولاية آسام في الشمال الشرقي، وبذلك أصبحوا بجرة قلم مشردين بلا وطن.
في عهد مودي، لم تعهد الهند – والتي كانت ذات يوم بلدا يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية – مهتمة حتى بالإبقاء على مجرد مظهر التضامن مع الفلسطينيين. يقود الهند اليوم رجل ينتمي إلى منظمة تحلم بتحويل البلد إلى إسرائيل أخرى.
* نقلا عن صحيفة "ميدل إيست آي" البريطانية.
لماذا يرفض الخليجيون دعوات إيران المتكررة لـ"السلام"؟
خبير إسرائيلي: أمامنا وقت طويل لمعرفة منفذي عملية دوليب
وثائق "عربي21" كشفت محاولة غسيل مخ الجيش المصري