أولا: الأردن ليس موطنا هشا إلّا إذا غَيَّبَ نفسه عن التحرك والتواصل الدولي، والترابط مع حليف أو تحالف قوي عربي أولا، أو حليف أو تحالف دولي قوي يستند إليه ماديا وتقنيا وأمنيا. فلا منعة مستمرة له لوحده في عالم مصلحي متغير حالي ومقبل، فهو موطن قوي بذلك، إلاّ إذا أساءت الإدارات الحكومية فيه رُؤيتها وقراراتها الإدارية والاجتماعية.
ذلك أن البلاد ومنذ نشأتها السياسية تدرك
أنها فقيرة في “الموارد المكتشفة”، لكنها محصّنة بقدرة شعبها واتساع أفق تعاونها
الخارجي، وتمسكها بمواقف ترابطية عربية ودولية، لا تقطعها البتَّة، بل تُحافِظ
عليها بدرجات متفاوتة. لا قطيعة كاملة مع العرب ولا مع الغرب ولا حتى مع المحتل
الإسرائيلي.
ثانيا:
لقد تصاعدت حمولات العبء المالي والاجتماعي على خزينة الدولة من فاتورة الدين
الإجمالي والفوائد والأقساط، (مديونية بحوالي 35 مليار دينار، والمتوقع أن تعلو
كُلَف فوائد الاقتراض الخارجي إلى ما فوق 6% بسبب “التردد المحسوب” من قبل
المانحين العرب والغرب، والمرهون حاليا عطاؤهم بشروط سياسية، أو مرهون بالتلويح
والتوقُّف في الضمانات، خاصة الأمريكية للاقتراض الأردني من السوق الدولي. (صورة
من صور اقتصاد الأردن الأسير) والتلويح بمشاريع، كصفقة القرن الغامضة السّامة
بحقوق أهلنا في فلسطين وبحق الأردن، وِفْقَ ما تسرَّب عنها، لحد الآن من معلومات.
كذلك تصاعد عبء التوظيف وارتفاع معدلات البطالة المفتوحة والمُقنَّعة (18% من
القوى القادرة على العمل)، فاقتصاد الأردن، يتصف بفائض في القوى العاملة؛ كما يتصف
بالازدواجية الاقتصادية Dualism، فيه قطاع مصرفي ومالي رابح، وقطاعات كبيرة ضعيفة؛ وتبرز الحساسية
الاجتماعية الأمنية هنا، في أن معظم العاطلين هم من خريجي الجامعات والمعاهد (صورة
أخرى من تركز آسر للاقتصاد الوطني). أما طرق التجارة الحيوية والتنقل البري مع
الجوار فهي مغلقة أو شبه مغلقة- سوريا والعراق ولبنان وتركيا. فالمواطن هنا أيضا
أسير؛ ويضيَّق أنبوب المساعدات العربية من السعودية ودولة الإمارات وقطر،
ويَضِيِقُ أكثر وفق حسابات إقليمية وخارجية؛ مقابل اعتماد مرهون، على الخزينة الأمريكية،
وقليل آخر متناقص دولي “لا مزيد من المنح من وعود مؤتمرات المانحين ولا مؤتمر
لندن، وحتى من العرب، بل يتساءل بعضهم مبررا امتناعه: أَلَمْ يحِنْ الوقت أن
يَفطِمَ الأردن اقتصادهُ من المساعدات؟”.
ثالثا:
لقد انصبَّت دراستي للحصول على درجة الدكتوراه على موضوع المساعدات الخارجية في
الأردن، وتعلمتُ منها أن المساعدات الخارجية يجب أن تكون ظرفية ومؤقتة، لتسد
الفجوة الادخارية بين مجمل الدخل ومجمل الإنفاق – لا دائمة؛ ذلك أنه ليست هناك
تغذية ورضاعة دولية مجانية بدون شروط سياسية أو اجتماعية.
رابعا:
يقوم الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، ومنذ توليه السلطة بدور حديث متنام، مقابل
تناقص في إنجاز ودور الحكومات؛ كما يقوم البرلمان الأردني بدور متوسع منافس
للحكومات، لذا اصبح الملك وأكثر من ذي قبل، منشغلا مهموما بالتفاصيل، سادّا لعجز
الحكومة والبرلمان في القيام بمهامهما المركزية، في التواصل والإدارة، والمتابعة
ورعاية الفئات الأقل حظا، والمشغِّل للوظائف والإسكان، والمتابع للاستثمار
والمستثمرين، وضعف قطاعي التعليم والصحة، إلخ؛ فتراخت الحكومات وركنت، لان هناك من
يجسِّر ويخفف عنها عبء مهامها العامة. وكذلك الحال عند جهاز البرلمان؛ فجيّرت بعض
الحكومات على الوالي المسؤولية. كما جيَّرَ مجلس الأمة الأردني المسؤولية، قبل
ثلاث سنوات، من خلال تعديلات دستورية فرزت صلاحيات إدارية لرأس الدولة، وموقعه
العالي ووقته أثمن، وهو في الأصل المُعفَى والمُحَصَّن دستوريا من المُساءَلة Accountability، فوُضِعَ موقعه وفق ذلك عمليا أمام تَبِعاتْ، في حين كان قبلها،
هو صاحب الولاية والمتابع، لكنه أيضا الفاصل Arbiter المُحكِّم والمُحاسِب
للآخرين، بدون تَبِعاتْ .
خامسا:
وعودة على الأوضاع الضاغطة، فالمكاشفة بها، خفيفة ومحدودة، ولا ترتقي إلى نهج
مُثْبَتْ. وقد تبرِّرُها الحكمةُ أحيانا، لكن الباب يبقى مفتوحا أمام الاجتهادات
بنوعيها المُخلِص، والمُتشَفِّي. وحول الضغوطات هناك أسئلة: هل هناك تطابق بين
الضغوطات الغربية الخارجية، وبالذات الأمريكية وتردد وانحسار العون التقليدي
العربي السعودي أو الإماراتي Mutually Concerted؟ أمْ أن هناك توافقا بينها Collusion؟ أم
أنها ضغوطات على الأردن مفروضة أساسا على أشقائنا المانحين.. وفي حوار مع زملاء لي
ذوي خبرة متينة، رُجِّحَ الاحتمال الأخير. Induced Pressure
سادسا:
فما هو إذن خيار الأردن الحالي “باتجاهِ” المخرج من الوضع الراهن؟ إن مخزون
الذاكرة الوطنية الاقتصادية الاجتماعية فيه شاخصة واضحة تنص على حكمةِ العودة إلى
الأُسس. بمعنى تصعيد الاستثمار السياسي في الداخل، فما دام الشعب مُتمَسِّكا
بقيادته، فإن العودة إلى تفعيل أنظمة مساءلة الحكومات تبرز جلية؛ وتفعيل الأنظمة
الداخلية لمجلس الأمة تلك التي تضبط سلوك الجهاز التشريعي ودوره؛ وتعالج
الازدواجية الاقتصادية – الاجتماعية Socio-Economic Dualism، وتلغي الازدواجية في
أدوار المؤسسات الرقابية من خلال اقتصار الرقابة الإدارية والمالية على قانون
العقوبات وديوان الخدمة المدنية، وديوان المحاسبة والبنك المركزي وهيئة الأوراق
المالية؛ ودمج أو إلغاء الأجهزة العديدة المُسْتَحدَثة في هذا المجال، تلك التي
اقتطعت لنفسها من غيرها أدوارا، بدون تأهيل كاف، وشوَّشت بذلك المواطن وحارَ
المستثمر منها، وهي مؤسسات معروفة. إن في التغير الوارد في البند السادس أعلاه،
حوكمة إدارية رشيدة وشفافية ووجهة واحدة مُحكِّمَة للمُساءَلة Reference.
سابعا
: وأجد وجاهة في الرأي الذي يُرجِّح التالي: أن يتم ذلك كله، بإيكال الأمر إلى
حكومة قدوة حسنة، متينة خبيرة خفيفة العدد، ذات استقلال فعلي لا تقبل التدخلات لا
في أعضائها ولا في إدارة الشأن العام؛ خاضعة للمساءلة البرلمانية – حكومة تشارك
وتتحمل عبء المسؤولية عن رأس الدولة، لا حكومة تجيّرها عليه. عندها يتحقق للأردن
ولشعبه الوطني المؤمن بأمته، حالا أمتن، يرص الصفوف، مُخفِّفا وربما كابحا
للضغوطات الخارجية؛ ويقرأ المُراقب الخارجي والجهات الضاغطة أن القرارات المتخذة
في الأردن نابعة عن حوكمة المشاركة الديمقراطية المؤسسية في المسؤولية.
وعندئذ يستطيع رأس الدولة أخذ قرارات حَرِجة، سياسية واقتصادية،
بمشاركة مع المؤسسات الوطنية، قابلة للدفاع عنها، ويتحصَّن أكثر، من سهام مُنظِّري
الإصلاح والاتهام بالانفرادية، بل يُمتِّعه هذا النهج بالقوة والاستمرارية.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية