خلال الأيام القليلة الماضية، دارت أحدث جولة من التجاذبات والتنازع حول السيطرة على المؤتمر الشعبي العام، الحزب الذي حكم
اليمن عدة عقود في عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح قبل أن تطيح به ثورة الحادي عشر من شباط/ فبراير 2011، وانعكس ذلك جلياً في الاجتماعين المنفصلين ومتضادي الأجندة اللذين عقدتهما قيادات بارزة في المؤتمر الشعبي العام؛ في كل من مدينة جدة السعودية والعاصمة المصرية، القاهرة.
خلف هذين الاجتماعين وقفت الرياض وأبو ظبي كمحركين أساسيين لعملية استدعاء المؤتمر الشعبي العام مجدداً؛ إلى واجهة المشهد السياسي اليمني المأزوم والمثخن بالصراع، وعلى نحو أماط اللثام عن ساحة صراع سياسية جديدة وأقل إثارة بين قطبي التحالف العربي، لتضاف إلى ساحات أخرى للصراع الدائر بينهما، بعضها سياسي وبعضها جيوسياسي، وبعضها الآخر يتعلق بمخاوف من تداعيات الحرب أو باستحقاقات الدور المستقبلي لهاتين الدولتين في الإقليم والعالم.
وبوحي من هذا الصراع الناشئ بين قطبي التحالف، بات المؤتمر الشعبي العام تركة صالح السائبة سلعة سياسية ذات جدوى في مزاد يتنافس فيه أسوأ المؤثرين في المشهد اليمني، على أمل الاستئثار بدوره المحتمل في مرحلة ما بعد الحرب.
في مدينة عدن التي تهيمن عليها
الإمارات بشكل كامل تقريباً، صدر موقف مثير للاهتمام على علاقة بالمؤتمر الشعبي العام، عبرت عنه طالبات جامعة عدن المنتميات لهذا الحزب، اللائي رفضن في بيان لهن اجتماع جدة الذي عقدته قيادات مؤتمرية موالية للسلطة الشرعية وللرياض.
واللافت في موقف طالبات المؤتمر في جامعة عدن أنه تطابق حرفيا مع موقف قيادة المؤتمر الخاضعة لسلطة
الحوثيين بصنعاء، على الرغم مما يستدعيه هذا الاسم من حساسية مفترضة من جانب من تضرروا من حرب الحوثيين على مدينة عدن والمحافظات الجنوبية، منذ شتاء 2015 وحتى اليوم. وما من مبرر لما يحدث سوى أن الإمارات هي من يدفع بالمؤتمر الشعبي العام بعيداً عن الشرعية وأجنداتها، وعن السعودية وأولوياتها.
لقد اتحد مؤتمريون يرتهنون لسلطة مليشيا الحوثي الانقلابية، مسنودين بقيادات خارجية بينها أحمد علي عبد الله صالح، نجل صالح الذي لقي مصرعه على يد الحوثيين في الرابع من شهر كانون الأول/ ديسمبر2017، على موقف متشدد من الشرعية التي يفترض أن الإمارات تدعمها. وفي هذا السياق، جاء موقفهم المتشدد أيضاً تجاه الاجتماع الذي عقدته قيادات مؤتمرية كبيرة موالية للشرعية في مدينة جدة برعاية سعودية، وصدر عنه بيان قوبل بالرفض، فيما لم تتعرض ما بات يطلق عليها قيادة مؤتمر الداخل للقاء منفصل عقدته قيادات موالية للإمارات في القاهرة.
على ماذا الرهان وهذا الحزب مثقل بإخفاقات هائلة وجرائم سياسية تصل حد الخيانة، أخطرها أنه أسقط الجمهورية وحلم التغيير في اليمن؟ ومع ذلك تلوح له الفرصة مجددا؛ لتفريغ حمولته المتبقية من العفونة السياسية والنماذج الصدئة من الممارسات التي لازمت أداءه طيلة العقود الماضية من عمر الديمقراطية المتواضعة في البلاد.
ومع هذا التنافس الناشئ على تركة صالح السياسية، يتجدد حلم قيادات في المؤتمر الشعبي العام بإمكانية استعادة دوره في الحياة السياسية، واقتناص الفرصة المتاحة له في هذه المرحلة للوصول الى موقع قيادة الدولة، استنادا الى الإشارات الإيجابية من القوى الإقليمية والدولية المتوجسة من نفوذ القوى السياسية الأخرى المحسوبة على ربيع اليمن، والحريصة على تصميم سلطة ترث هذه الدورة من الاحتراب والعنف، وتتوفر على القدر المطلوب من الميوعة السياسية القابلة للتوجيه نحو تلبية المصالح الخارجية، وهي مهمة أتقن المؤتمر تأديتها طيلة فترة حكمه.
لذا لا غرابة أن تتبدى هذه القابلية لدى معظم قيادات المؤتمر الذي ظل يراوح بين وضعية التنظيم ووضعية الحزب، لعدم إيمان مؤسسه وقياداته التقليدية على وجه الخصوص بالحزبية وبتعدد الأحزاب من الأساس، ناهيك عن القبول بالديمقراطية وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع.
الإمارات، كما هي السعودية والحوثيون وقطاع من اليمنيين المحكومين بحسن النوايا، جميعهم يحاولون تأسيساً على أجندتهم الخاصة؛ إعادة تدوير وتصدير قيادات وكوادر هذه التركة السائبة إلى المشهد العام في اليمن.
وطبقاً للمؤشرات الواقعية، فإن فرص أبو ظبي تبدو مؤاتية للاستحواذ على المؤتمر بعد أن نجحت في دفع قيادته في صنعاء لإبقاء تحالفها مع الحوثييين الذين يفترض انها تحاربهم ضمن حلفها العسكري مع الرياض، وجعلت عددا لا بأس به من قيادات الخارج- وبعضها ذات ميول حوثية صريحة- تدور في فلك مؤتمر الداخل وتتكئ على مشروعيته ومشروعية إجراءاته التنظيمية في ضرب أية محاولة أخرى لاستعادة المؤتمر إلى صف الشرعية بالكامل.
وهدف أبو ظبي النهائي الأهم هو إعادة توظيف المؤتمر لخدمة استراتيجيتها التي ترمي إلى إنهاء الصراع في اليمن؛ وفق ترتيبات مفتوحة على احتمالية تفكيك اليمن والإقرار بصيغة حكم تشاركية هجينة لشمال البلاد، بين الحوثيين وبقايا المؤتمر، فلا مانع لديها في أن يبقى الحوثيون أقوياء بما يكفي لمشاغله الرياض وإيذائها.
وفي المقابل، تبذل السعودية محاولات جادة لوضع المؤتمر في موقع الحامل السياسي لمعركة السلطة الشرعية، وفق ترتيبات يمكن أن تحتمل تفكيك الدولة اليمنية، لكن لا تستوعب الحوثيين في أي دور مستقبلي مؤثر ومستدام؛ من شأنه أن يبقي المملكة عرضة لتهديداتهم واتصالهم بالأجندة الإيرانية.
وهذا يعني أن كلا من السعودية والإمارات يسعيان وفقا لأولويات كل منهما في استخدام هذا المؤتمر؛ لإنجاز خاتمة سيئة وخطيرة وكارثية لتدخلهما العسكري في اليمن.
وما يهمني هو أن على اليمنيين أن يفكروا جيدا في الالتفاف حول تنظيم سياسي متحرر من أوزار الممارسات السياسية الكارثة التي تورط فيها المؤتمر الشعبي العام، بصفته حزبا هجينا ومتلونا؛ بدأ بأجندة إسلامية محافظة، ثم تلبّس ثوب حزب الدولة الشمولي قبل أن ينتهي لفيفا من مصالح القيادات والقوى المنبوذة في زمن التغيير الثوري النبيل.
لا أعتقد أن البيئة السياسية عقيمة عن أن تلد حزبا برامجيا نظيفا وموحدا وواسع الطيف السياسي والجهوي؛ للنهوض بأعباء واستحقاقات المرحلة المقبلة، ولتكن القيادات النظيفة التي عملت في إطار المؤتمر جزءا من هذا الكيان الحزبي الوطني المأمول.