لم يعد ممكنا توقّع مادة الحرب القادمة في الشرق، أي السبب الذي ستقع من أجله الحرب، فقائمة الأسباب عديدة، منها ما هو ذو طبيعة استراتيجية، وصولاً إلى
حروب قد تقع لأسباب يصعب تخيلها وإدراكها.
والحقيقة أن كل ذلك يدخل في إطار الممكن، ولن يكون صعبا تغليفه برداءات سياسية فضفاضة.. ألم تخض النخب الحاكمة الحروب على شعوبها التي طالبت بالحرية؛ بذريعة أن محتوى مطالبها ينطوي على تدمير الدول وأن أدواتها التعبيرية ذات صبغة إرهابية؟
في بداية عقد الثمانينيات، خرجت العديد من الدراسات التي تبشرنا بأن الحرب القادمة ستكون حرب على
المياه، وأن الحروب العربية- الإسرائيلية من أجل تحرير فلسطين أصبحت معادلاً للترف؛ في ظل الصراع على الموارد المائية وخطر العطش القاتل الذي بات يقف على أبواب المدن والأرياف في مناطق
الشرق الأوسط.. حرب المياه ما زالت ممكنة في أي لحظة، وقد تم تأجيلها نتيجة تحايل الأطراف واعتمادهم على ما تبقى من مصادر غير نهرية، وهي وصلت مرحلة النضوب، ولم تصل أي من الأطراف المتشاطئة على الأنهار (الفرات
والنيل، ونهر السنغال في المغرب)، إلى اتفاقيات واضحة حول تقاسم المياه بينها.
في بداية التسعينيات اشتعلت حرب النفط في المنطقة، كانت ترجماتها الأوضح في الحرب على العراق، حينها صدّرت إدارة جورج بوش الابن شعارا يقول: "إننا نحارب من أجل فرص عملنا"، وذلك في إشارة إلى أهمية الحرب التي تخوضها أمريكا ولإيجاد مبررات تستند عليها. وحرب النفط هذه لم تتوقف حتى اللحظة، رغم أنها منضبطة في الإطار الذي فرضته أمريكا.
حرب الهوية لم تنته يوما لتبدأ، وفي الزمن الحديث يمكن تأريخ الحرب الصهيونية على الهوية الفلسطينية والعربية عموماً؛ كبداية لهذه الحرب، رغم أن هذه الأخيرة من سلالة حروب الغرب لعدة قرون على الهوية العربية، وقد تجسّد آخرها على شكل وصاية على الشعوب العربية، كما تمت ترجمتها بنظام الانتداب سيئ الذكر، الذي تكفل خلاله الرجل الأبيض بمهمة تطوير الشعوب العربية، ونزع التوحش والتخلف عن شخصيتها. حرب الهوية هذه تجدّدت في السنوات الأخيرة على يد إيران، التي يبدو أنها قرأت جيداً سيرة الغرب والصهاينة في هذا المضمار، وراحت تعيد إنتاج تجاربهم على جسد السوريين والعراقيين؛ ليس بهدف تحضيرهم فقط، بل وحمايتهم من المؤامرة الصهيو- أمريكية- إرهابية.
وحرب الحرية والديكتاتورية، وإن تفجرت بشكل واسع وعلني سنة 2011، إلا أنها حرب مستمرة منذ تأسيس الكيانات العربية الحديثة؛ بدأت على شكل سطو مسلح على السلطة، وعبر فرض إرادة القوّة والأمر الواقع، وتأخذ اليوم شكل إفناء علني للخصوم والمعارضين، بل إنها في طبعاتها الأخيرة؛ لم تعد تكتفي بالإفناء المادي لقادة المعارضة ونشطاء الأحزاب، بل ترمي إلى إفناء مجتمعات كاملة وتغيير ديمغرافيتها من جذورها، أو تحويل هذه المجتمعات إلى فائض يعيق تطور المجتمع النخبوي، مجتمع السلطة. وهذه الحرب ستكمل سيرتها في منطقتنا ما دامت موازين العدالة مختلّة، وما دامت هناك فئات تعتقد أن لها وحدها حق امتلاك الثروة والسلطة في هذه البلاد.
النسخة الجديدة من حروب المنطقة، ولن تكون الأخيرة بالطبع، حروب
الغاز وادعاءات ملكية حيوزات منابعه
وخاصة في البحر الأبيض المتوسط. وما يجعل احتمالية حصول مثل هذه الحرب واردة، ليس فقط الطمع بالثروات التي ستحصل عليها الأطراف ذات العلاقة المباشرة، وإنما قانون البحار الفضفاض، والذي يجعل من الصعب تحديد ملكية دولة ما. وإذا كان القانون قد حدّد الحدود الإقليمية لكل دولة، فإنه ترك الأمر مفتوحا للاجتهادات في المنطقة المسماة مياهاً دولية، إذ تستطيع الدول الادعاء بحق الانتفاع في تلك المياه والبحث والتنقيب عن الثروات واستغلالها، ويقتصر فصل النزاعات في هذه الحالة على محكمة العدل الدولية، والتي من شروط نظرها في أي نزاع؛ اتفاق الطرفين على ولاية المحكمة.
المشكلة في البحر الأبيض المتوسط، أنه يعتبر من ضمن البحار الضيقة، ومن السهل تصادم الأطراف المتشاطئة واختلافها على الملكيات داخل مياهه. وقد فجّر ظهور الغاز هذه الإشكالية، ولا يبدو أنها في طريقها للحل من الآن ولسنوات طويلة.
في كتابه الصادر قبل سنوات "انتقام الجغرافيا"، يتنبأ الاستراتيجي الأمريكي روبرت د. كابلان، الجيوسياسي ذو الشهرة العالمية، بتفتت الشرق الأوسط، وبالتحديد منه المشرق العربي، نتيجة ظروف مناخية قاسية، تحديدا نقص الماء، وإنهاك الشعوب بالحروب والصراعات، وهذا التفتّت سيكون على شكل عودة للمكونات الأولية، عشائر وقبائل، ربما حينها نستطيع إعادة إنتاج أنماط حروب تاريخية من نوع داحس والغبراء.