كشفت الموجة الأولى من الثورات الشعبية العربية عن سذاجة كبيرة في تفكير الحالمين بالتغيير، ولا أبرئ نفسي من هذه السذاجة! اعتقدت الغالبية العظمى من الشعوب و"النخب" والأحزاب والقوى المؤيدة للثورات أن الصراع هو بينها وبين أنظمة الحكم فقط، واعتقدت أيضا هذه الغالبية أن نظام الحكم هو "الرئيس"، الذي سيؤدي إسقاطه إلى وضع حد للصراع مع الاستبداد وفتح صفحة جديدة من الحكم الرشيد في الدول العربية.
خلال سنتين ونصف تقريبا من التفاعلات التي تلت الثورات، اكتشف الحالمون بالتغيير أن الصراع ليس فقط مع رأس النظام، بل هو مع المنظومة الفاسدة كاملة، ولكن هذا الاكتشاف "البديهي" حدث بعد خسائر هائلة بالأرواح والممتلكات، وبعد خراب السياسة في دول "الربيع"، وبعد هزيمة نكراء للثورة وأحلامها وأهدافها.
ومن المؤكد أن فهم هذه الحقيقة مهم وجوهري لأخذ
الدروس والاستفادة منها في موجات "حتمية" أخرى من الثورات ستأتي عندما
تنضج ظروفها مستقبلا، ولكن الأهم هو توسيع النظرة بشكل أكبر، ومحاولة الحفر في
جذور الأزمة والصراع في المنطقة. فهل هو حقا بيننا نحن الشعوب وبين الأنظمة؟
من المؤكد أن فهم هذه حقيقة الصراع مهم وجوهري لأخذ الدروس والاستفادة منها في موجات "حتمية" أخرى من الثورات ستأتي عندما تنضج ظروفها مستقبلا.
ثمة عاملان مهمان يساعدان على فهم حقيقة الصراع في المنطقة، وهما سياقات تأسيس الدولة العربية الحديثة، والمشروع الصهيوني.
تأسيس "الدولة الحديثة" في الوطن العربي
حتى نوسع دائرة الفهم لطبيعة الصراع، لا بد لنا من قراءة تاريخ تأسيس "الدولة الوطنية" أو دولة "ما بعد الاستعمار" في المنطقة، لأن الصراع مشتق، في حقيقة الأمر، من طبيعة هذه الدولة وسياقات تأسيسها في البدايات.
لقد أسست الدول العربية "الحديثة" كأحد نتائج الحرب العالمية الثانية، حيث أنهكت الحروب دول الاستعمار الكبرى، وصعدت قوة "إمبريالية" جديدة هي الولايات المتحدة الأمريكية لتحتل النفوذ الذي كانت تملكه دول أوروبا الاستعمارية.
في هذه اللحظة التاريخية، أدركت الدول الكبرى أن استمرارها بالشكل الاستعماري التقليدي لدول الشرق الأوسط سيشكل عبئا أمنيا وسياسيا واقتصاديا مستمرا، خصوصا مع تصاعد حركات مقاومة الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي في مختلف الدول العربية، مع اختلاف شكل المقاومة أو النضال من بلد إلى بلد، وهو الأمر الذي أدى إلى التخلي عن الاستعمار المباشر بكل تكاليفه وأعبائه، والتحول إلى لعبة النفوذ والقوة الناعمة، والتحكم بالموارد في دول يتم تأسيسها تحت عين الاستعمار القديم.
كانت العقود الخمسة أو الستة التي تلت تأسيس الدولة "الحديثة" في العالم العربي مليئة بالتجربة والحكمة التاريخية، ويبدو أن الحكمة الأساسية التي اكتسبتها قوى الاستعمار القديم من هذه التجربة هي أن نفوذها وتحكمها بالموارد لن يستمر إلا في ظل أنظمة مستبدة، تستمد شرعيتها من قوة أجهزة الأمن والقمع ومن دعم القوى الكبرى، وليس من شعوبها.
أما الحكمة التي يجب أن نكتسبها نحن كشعوب
طامحة للتغيير، فهي أن الصراع الحقيقي هو مع الاستعمار، ونفوذه، وتدخلاته لصالح
الاستبداد، وليس فقط مع الاستبداد نفسه.
الحكمة التي يجب أن نكتسبها نحن كشعوب طامحة للتغيير، هي أن الصراع الحقيقي هو مع الاستعمار، ونفوذه، وتدخلاته لصالح الاستبداد، وليس فقط مع الاستبداد نفسه.
وإذا نظرنا لأهم محطات الصراع بين الشعوب والثورات المضادة وأنظمة الاستبداد خلال السنوات الماضية، فإن العامل الإسرائيلي كان حاسما في كثير منها، ويبدو هنا المثال المصري حاضرا من خلال دعم القوى الكبرى للانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، وتمهيد الطريق لنظام السيسي الذي يبالغ في الخضوع للولايات المتحدة ودولة الاحتلال، ويقدم نفسه للقوى الكبرى كمدافع عن مصالحهم في "مكافحة الإرهاب"، و"تجديد الخطاب الديني"، والسعي لتحقيق السلام بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال.
المثال السوري لا يقل وضوحا هو الآخر عن نظيره المصري، فقد تعاملت القوى الكبرى الغربية بمنطق الحفاظ على الصراع العسكري بين النظام والمعارضة من خلال ضبط نوعية الأسلحة التي تصل للفصائل المختلفة، بحيث لا ينتصر أي من الطرفين، قبل أن تهيأ الفرصة لانتصار النظام من خلال غض النظر عن التدخل الروسي الذي كان حاسما في هذا المجال. هذا السيناريو كان الأفضل والأكثر تحقيقا لمصلحة الاحتلال لأنه أضعف كافة الأطراف المعادية له، وخلف دولة منهكة ضعيفة لا يمكن أن تمثل خطرا على دولة الاحتلال.
هذه الأمثلة وغيرها ليست سوى أدلة جديدة على أهمية الصراع العربي الإسرائيلي من جهة، وعلى أن الصراع الحقيقي مع الاستبداد هو صراع مع الاستعمار والاحتلال أيضا.
ما المطلوب من الثورات الشعبية؟
إذا أدركت قوى التغيير والإصلاح العربية بكافة أيدولوجياتها وأفكارها وخلفياتها طبيعة الصراع، فإن هذا يمكن أن يحسن أداءها في مواجهة أنظمة القمع والاستبداد، وفي وجه الدولة العميقة في البلدان التي قد يسقط فيها رأس النظام نتيجة الحراكات الشعبية، كما حصل مؤخرا في الجزائر والسودان، وكما يمكن أن يحدث في أي دولة عربية أخرى. ويمكن اقتراح الأفكار التالية:
أولا: الابتعاد عن الخلافات الأيدولوجية في مرحلة الثورات والمراحل الانتقالية، لأن صراع الاستعمار ومن خلفه الاستبداد هو مع أي مشروع نهضوي عربي، سواء كان إسلاميا أم علمانيا، قوميا أم يساريا، ولهذا فإن من العبث أن تتصارع القوى "الديمقراطية" لمصلحة الأطراف التي تتربص بحراكهم وثورتهم.
ثانيا: الابتعاد عن الروح القطرية والانعزالية في الثورات، ووضع الصراع في سياقه الإقليمي الواسع، فالاستعمار والاستبداد يعملان على مستوى الإقليم وليس في كل دولة على حدة، ومواجهتهما تتطلب أيضا عملا على المستوى العربي. لا يمكن لثورة عربية أن تنجح في أي بلد دون التعاون مع دول عربية ثورية أخرى.
ثالثا: ممارسة الضغط على "الدولة العميقة" وقيادات المراحل الانتقالية لاتخاذ مواقف وطنية تحافظ على كرامة البلد والشعب أمام القوى الكبرى، وإجبار هذه القيادات على فهم طبيعة المرحلة التي يجب أن تكون فيها شرعية القيادات مبنية على قبول الشعوب وليس على دعم القوى الكبرى. وقد يقول البعض إن هذا التوجه ليس "واقعيا"، لأن اتخاذ مثل هذه المواقف سيستعدي الدول الكبرى التي ستعمل على وقف تجربة التحول.
والحقيقة هي أن معاداة الدول الكبرى للتحول حتمية، ولا علاقة لها بالمواقف التي تتخذها الدول في المراحل الانتقالية للثورات، ولكن اتخاذ مثل هذه المواقف قد يساعد الدول التي تعيش التحولات على تشكيل تحالفات جديدة تساعدها على مواجهة القوى الكبرى، كما أنها ستحظى بإجماع داخلي يمكنها من المواجهة.
الثورة السودانية والخوف من السيسيزم
ماذا ربح الإسلام برئاسة البشير؟!