لم تكن مجزرة المسجدين في مدينة كرايست شيرتش النيوزيلندية الأولى، ولن تكون الأخيرة بحق مسلمين مسالمين ترتقي أرواحهم الطاهرة بيد الإرهاب في الغرب؛ لأن الأمر تجاوز مرحلة ما يمكن أن يشار إليه بأنه عمل فردي إلى مرحلة ظاهرة ملموسة تتصاعد وتنتشر في الغرب، أفرزتها عوامل عديدة؛ عقدية وسياسية واقتصادية على مدار العقود الماضية، وتحمل رسالة واحدة للعرب والمسلمين، وهي التخويف وأنه لا بقاء لهم في أوروبا.
"برايتون تارانت" ذلك الإرهابي الأسترالي سوداوي القلب مطموس البصيرة، خبيث النفس، منحرف الفطرة، وخالع رداء الإنسانية، والمتسربل برداء التوحش والحيوانية، هو أحد الإفرازات الصديدية لظاهرة العداء للإسلام، نتيجة ما يسمى "الإسلاموفوبيا".. يقتل بدم بارد على الهواء مباشرة خمسين مسلما في مسجدين، ويجرح العشرات وقت صلاة الجمعة، ليتلقف العالم أجمع الحدث عبر البث المباشر ويشاهد قاتلا لم يبد ندما بعد على جريمته ولو للحظة، بل أظن أنه إن ندم فسيندم أنه لم يستطع أن يقتل سوى خمسين مسلما فقط!
إجراءات ضعيفة ومواقف متناقضة
مجزرة المسجدين في الخامس عشر من آذار/ مارس 2019 لن يكون ما بعدها مثل ما كان قبلها، فقد مثلت لحظة فارقة وكاشفة على مستويات متعددة، سواء في نيوزيلندا أو في الغرب أو في العالم العربي والإسلامي، ولها دلالاتها وابعادها.
فعلى الرغم من بشاعة مجزرة المسجدين الإرهابية وخصوصية طريقة تنفيذها، إلا أن الملاحظ حتى هذه اللحظة أن المواقف والإجراءات التي تم اتخاذها كانت ضعيفة ولا ترقى إلى مستوى جريمة بهذا الشكل، ولعل من بين أهم أسباب ضعف الإجراءات هو وهن وضعف ردود فعل النظام الرسمي العربي والإسلامي، وهذا لا يعد مستغربا بل يمثل امتدادا طبيعيا لمسيرة النظم العربية تحديدا في العقود الأخيرة، حيث تعيش مرحلة من التردي على المستويين الداخلي والخارجي.
ورغم أن مجزرة المسجدين الإرهابية تعد ذات أبعاد تمس الأمن القومي العربي والإسلامي، إلا أن ردات الفعل جاءت منسجمة مع المواقف غير الفاعلة للنظم العربية والإسلامية تجاه حوادث في ذات السياق، بل وصل الأمر إلى تبني خطابات كراهية وعداء للإسلام من داخل الأمة العربية والإسلامية، ويُستثنى من ذلك الدولة التركية التي باتت بقيادة "أردوغان" تمسك بزمام القيادة في العالم الإسلامي وتتصدى بفاعلية لقضاياه الحيوية، وكان موقفها من مجزرة المسجدين فاعلا على أعلى المستويات، وعبّر عنه الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" بوضوح قولا وعملا.
على النقيض تماما من الموقف العربي والعالمي الفاتر تجاه مجزرة المسجدين، كان الموقف مختلفا تجاه حادثة صحيفة "شارلي إيبدو" بباريس في 7 كانون الثاني/ يناير 2015 (تلك الصحيفة التي دأبت على الإساءة للإسلام وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم)، فقد انتفض قادة العرب والعالم بردود الفعل تجاه الحادثة، رغم أن هذه الحادثة كانت بشكل أو بآخر لتشويه صورة الإسلام والمسلمين والعرب. وقد حشدت فرنسا ورئيسها "فرنسوا هولاند" الرأي العام الدولي في هذا الاتجاه، ليترجم ذلك بحضور نحو خمسين رئيسا جنازة رمزية في باريس.
صورة وهمية عن الإسلام والمسلمين
وبالعودة قليلا إلى الوراء، سنجد أن تنظيرا مسموما محملا بالعداوة للإسلام والمسلمين عاشه الغرب وتربى عليه، ساسة ومواطنين، وشكل عقيدة بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي؛ حمل لواءه أمثال صمويل هنتينجتون، صاحب كتاب "صدام الحضارات" وفوكوياما، صاحب كتاب "نهاية التاريخ"، وغيرهما، إضافة إلى إعلام صوّر المسلمين كأعداء متوحشين. ويضاف إلى ذلك، أصحاب مصالح من سياسيين وعسكريين ضخّموا خطر المسلمين على الغرب؛ لاستمرار تحالفهم العسكري وتدوير عجلة مصانعهم العسكرية، عبر إشعال الحروب في بلاد المسلمين، وهذا ما قاله "جاك بومل"، أحد البرلمانيين الفرنسيين في التسعينيات من القرن العشرين.
ومع بدايات العقد الأخير من القرن العشرين، مثلت حرب الخليج الثانية نقطة فارقة في انتشار الدعاية الغربية المسيئة والبعيدة كل البعد عن الحقيقة بشأن الإسلام والمسلمين، خاصة في المنطقة العربية، حيث كانت الحرب فرصة للقائمين على الإعلام الغربي ليكتشفوا أن تصوير الإسلام كعدو يمثل قيمة تسويقية عالية، عبر تصدير صورة وهمية عن الإسلام والمسلمين أججت مخاوف مرضية من خطر محدق بالغرب وثقافته؛ تلاشت أمامها كل المحاولات العقلانية المنصفة لتوضيح الصورة الحقيقة، ورسمت "كليشيهات" ثابتة في التعامل مع الإسلام والمسلمين.
في مرحلة جورج بوش الابن شهدت هذه الفترة صعودا لتيار المحافظين الجدد المتصهينين، والذي دخل في تحالف مع اليمين المتطرف، واستطاعا عبر مراكز دراسات ووسائل إعلام أن يصوروا للعالم أن المشكلة تكمن في الإرهاب العربي الإسلامي، وتجب مواجهته، رغم أن المنطقة العربية والعالم الإسلامي يتعرضان للإرهاب، سواء من الغرب الرسمي أو من جماعات متطرفة ساهم الغرب بممارساته في ظهورها.
في السنوات الأخيرة، شهد الغرب صعودا قويا لليمين المتطرف وسيطرته على مفاصل الحكم في كثير من الدول الأوروبية، لتتصاعد وتيرة العنصرية والكراهية تجاه المهاجرين والمسلمين، والتي رفعت منسوبها مشكلات اقتصادية باتت تدق أبواب كثير من دول أوروبا.
على صعيد آخر، في الولايات المتحدة الأمريكية، مثّل صعود ترامب إلى سدة الرئاسة إلهاما جديدا للتوجهات اليمينية المتطرفة في الغرب، حيث تبنى خطابا ومنهجا عدائيا عنصريا تجاه الهجرة والمسلمين، وصرح أكثر من مرة أنه يريد إغلاق المساجد ومنع الهجرة، كما وصف الإسلام بالتطرف.
نيوزيلندا والغرب
نيوزيلندا، ذلك البلد الهادئ، عضو في التحالف الاستخباراتي المسمى بـ"فايف آيز"، وهو أقوى تجمع استخباراتي في العالم، ويضم أمريكا وكندا وبريطانيا وأستراليا إضافة إلى نيوزيلندا). وجميع هذه الدول على "المذهب البروتستانتي"، أي أنه تحالف قائم على أساس أيديولوجي "ديني" في المقام الأول.
نيوزيلندا بلد يبلغ تعداد سكانه خمسة ملايين نسمة تقريبا، يعرف قرابة نصفهم أنفسهم بأنهم مسيحيون. وتبلغ نسبة المسلمين 1.4 في المئة من السكان. وثقافة المجتمع ثقافة غربية، ولذلك فإن نيوزيلند ليست بعيدة عن التأثر بما يجري في أوروبا، غير أنها لم تشهد حوادث كراهية ضد المهاجرين أو أصحاب الديانات الأخرى، وتعتبر من الدول ذات المستويات المنخفضة في معدلات الجريمة والعنف.
لقد كانت مجزرة المسجدين مفاجئة (كما هو واضح) بالنسبة لنيوزيلندا، حكومة وشعبا. وقد مثلت ردة الفعل من جانب رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن ومن الشعب النيوزيلندي نموذجا؛ أعتقد من وجهة نظري أنه نموذج مشرف ولا يُحسب على الغرب (أوروبا وأمريكا)، رغم الترابط التاريخي والثقافي والمصلحي؛ فالغرب يتبنى خطاب كراهية مزدوجا ويستغل أحداثا معينة تقوم بها جهات أو جماعات باسم الإسلام ليوظفها ضد الإسلام والمسلمين، غير أن نيوزيلندا بتركيبتها وردة فعل حكومتها؛ تبدو خارج هذه المعادلة، ولعل مما يعضد ذلك هو أن ذلك الإرهابي منفذ مجزرة المسجدين (برايتون تارانت) يحمل الجنسية الأسترالية، واختار نيوزيلندا الهادئة لتنفيذ جريمته، وهذا في حد ذاته يطرح أسئلة حول اختيار المكان والتوقيت، بل يحمّل الحكومة الأسترالية المسؤولية، ويجعلها في موضع الاتهام، خاصة وأن على رأسها رئيس حكومة هو "سكوت موريسون"، المتهم بأن له ميولا للاتجاه المتطرف.
ماذا بعد مجزرة المسجدين؟
هناك سؤال مهم، وهو: ماذا بعد مجزرة المسجدين؟ فخلال أسبوعين عقب مجزرة المسجدين وحتى كتابة هذه السطور؛ توالت تحذيرات من هجمات على المساجد في عدد من البلدان الأوروبية وتصاعد خطاب الكراهية ضد الإسلام والمسلمين. ففي الدنمارك على سبيل المثال، قام متطرفون بتقاذف المصاحف وحرقها، وكان على رأسهم "راسموس بالودان"، رئيس أحد الأحزاب اليمنية المتطرفة في الدنمارك، والذي استفز المسلمين بحرق نسخٍ من القرآن الكريم أثناء تجمع لهم أمام البرلمان تضامنا مع شهداء مجزرة المسجدين في نيوزيلندا.
كما شهدت أستراليا أربع هجمات ضد المسلمين والمساجد، وشهدت بريطانيا سبع هجمات، وأمريكا ثلاث هجمات. وهنا يطرح سؤال نفسه: لو كانت هذه الموجة الإرهابية قد استهدفت يهودا ومسيحيين هل كان الموقف العالمي والعربي كما هو عليه الآن؟ بالطبع لا، فلو حدث هذا لكان ذلك هو الموضوع الأوحد الذي يتحدث عنه العالم والعرب ووسائل الإعلام في المشرق والمغرب.
إن مجزرة المسجدين في نيوزيلندا وردود الفعل تجاهها، وما تبعها من أحداث كراهية ضد المسلمين والمساجد في أوروبا وأمريكا، تؤكد أن الإرهاب لم يعد محددا في جغرافيا بعينها، وأن هذا الموروث من الكراهية ضد الإسلام والمسلمين لن تحرق نيرانه اللاعبين بورقة الإسلاموفوبيا فقط، ولكن سيضر بمصالح الغرب الذي يعيش فصاما بين الواقع والشعارات المرفوعة، وينسف ما ينادي به البعض من حوار الحضارات؛ لأن الوضع القائم ليس حوار حضارات، ولكنه صراع حضارات بكل ما تعنيه الكلمة، وفرضه فهم غربي معوّج مغلوط جعل من الإسلام والمسلمين عدوا على غير الحقيقة.
ختاما..
لقد مثلت مجزرة المسجدين في نيوزيلندا بحيثياتها حدثا فارقا، وجرس إنذار للعازفين على أوتار الكراهية والعنصرية في الغرب ليعيدوا النظر في مآلات خطاب الكراهية؛ والعداوة الموروثة التي يؤججها سيل من المغالطات التي لا تعطي فرصة للمنصفين والباحثين عن الحقيقة. وما كانت مجزرة المسجدين في نيوزيلندا إلا انعكاسا واضحا ونتيجة مباشرة لذلك.
إن الشواهد التاريخية جميعها تؤكد أن علاقة الغرب مع العالم الإسلامي ليست مجرد صراع مصالح سياسية واقتصادية، فحسب ولكنه صراع ديني، جنبا إلى جنب مع المصالح والأهداف السياسية والاقتصادية، رغم أن الغرب ونخبته لو نظروا في جوهر الإسلام وحقيقته لوجدوا في الإسلام المخرج لسائر ما يعانون منه من مشاكل وأزمات.
حتى لا تتكرر "كرايست شيرش" في أوروبا!
اليمين الراديكالي وخطاب الكراهية