ضمنت وصفة "التوافق" التي توصل إليها "الشيخان"، الغنوشي والسبسي، لقاء بباريس في 15 آب/ أغسطس 2013؛ استقرارا سياسيا لتونس، وضمنت للسبسي وصولا لسدة الرئاسة، وضمنت للنهضة توقّيا من قصف إعلامي وسياسي استمر طيلة وجودها في الحكم.
ما الذي جعل الباجي قائد السبسي يُعلن نهاية "التوافق" مع النهضة، رغم تأكيد كل قادتها تمسكهم به وإعلانهم عن علاقاتهم المميزة مع رئيس الجمهورية، مؤسس حزب النداء؟
في حوار تلفزي بإحدى القنوات الخاصة، يوم 24 أيلول/ سبتمبر 2018، فاجأ الباجي قائد السبسي الجميع بإعلانه نهاية التوافق مع حركة النهضة، محملا إياها مسؤولية هذا الإنهاء.
حركة النهضة تنفي أن تكون طلبت ذلك، إنما تؤكد أنها اختلفت مع رغبة رئيس الجمهورية في إقالة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وتبرر ذلك بحرصها على الاستقرار السياسي في ظل تهديدات أمنية وأزمة اقتصادية.
كان يُفترض أن يكون الباجي قائد السبسي هو المتمسك برئيس حكومة هو من جاء به، لكونه ابن حزبه الفائز بانتخابات 2014، فكيف يدعو هو إلى إقالته وتتمسك به النهضة؟
النهضة لا تتمسك بالشاهد لذاته، وإنما لهدف وطني يتجاوز المصالح الحزبية. وقد اشترطت على الشاهد إعلانه التزاما بعدم الترشح للرئاسة في انتخابات 2019.
سبب "توجس" السبسي من الشاهد.. إنها الرئاسية القادمة؛ يريدها لنفسه إذا استطاع إليها سلامة صحية، ويريدها لابنه خلافة لا تنسجم مع المسار الديمقراطي ومع أشواق الثورة
النهضة تدرك سبب "توجس" السبسي من الشاهد.. إنها الرئاسية القادمة؛
يريدها لنفسه إذا استطاع إليها سلامة صحية، ويريدها لابنه خلافة لا تنسجم مع المسار الديمقراطي ومع أشواق الثورة. لم يعتد الباجي قائد السبسي "استعصاء" من حركة النهضة التي ظنها طيّعة لحد قبولها بكل "شهواته"، حتى وإن كانت غير مقبولة سياسة وعقلا وكفاءة، ولذلك سارع إلى إعلان إنهاء "التوافق" وتحميلها مسؤولية ذاك.
ويرى مراقبون أنه كان "يهدد" فقط ويأمل أن تعود النهضة إليه "صاغرة" وتستجيب لـ"شهوته" تلك، فتقبل بالتخلي عن رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وربما تلتزم بدعم السبسي في الرئاسة، أو دعم ابنه الذي لا يخفي طموحه في خلافة والده بعد أن خلفه في ترؤس حزب "نداء تونس".
ظلت حركة النهضة، في بيانات مجلس شوراها وبيانات مكتبها التنفيذي وتصريحات زعمائها، تعلن تقديرها لرئيس الجمهورية، وتُعلي من شأنه ومن دوره في خدمة البلاد وتحقيق الاستقرار وحماية المسار، غير أن سيادة الرئيس ظل بأسلوبه البورقيبي الذكي يُرسل تهديداتهـ ويتوعّد بـ"صيد القُبّرة" التي ظنت أنها في مأمن.
بعد أسبوع فقطـ، أي في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، كانت الندوة الصحفية لهيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد براهمي القياديين في الجبهة الشعبية، وكانت "المفاجأة" الإعلامية والأمنية في آن؛ حين أعلنت عن وجود "جهاز سري" تابع لحركة النهضة تخترق به وزارة الداخلية، ويقوم بمهام تهدد السلم الأهلي والأمن الوطني لصالح حزب سياسي.
ظلت تلك "المفاجأة" مدار حديث الإعلام والساسة وتحديدا خصوم حركة النهضة، رئيس الجمهورية استقبل تلك "الهيئة" وتسلم منها وثائق هي أشبه ما تكون بـ"مجلد" كبير، وأعلن أن ما تقوله الهيئة فيه معقولية.. كان يرسل برسالة للنهضة، وكأنه يقول لها إنه من "أنقذها" سابقا (وقد قالها)، وإنه من يقدر على إعادتها لمنطقة "الشبهة"، وعليها أن تبحث لنفسها عن مخرج أو أن تعود إليه "صاغرة".
لا ينفي متابعو الشأن العام التونسي أن الباجي قائد السبسي سياسي محنك، وأنه يُحسن استثمار كل الملفات في مصلحته السياسية.. ودخول الباجي على "خط" هيئة الدفاع عن الشهيدين كان عبارة عن عملية لفت نظر
الغنوشي إلى كون الباجي يقف "هنا"، حيث ترتفع أصواتٌ تزعجك وتشوش عليك، وتنال من "سمعة" سياسية اكتسبتها بفضل "التوفق" والتنازل عن السلطة عند طاولة الحوار الوطني؛ لصالح حكومة كفاءات غير مسيسة بتاريخ 26 كانون الثاني/ يناير 2014.
رئيس الجمهورية استقبل تلك "الهيئة" وتسلم منها وثائق هي أشبه ما تكون بـ"مجلد" كبير، وأعلن أن ما تقوله الهيئة فيه معقولية.. كان يرسل برسالة للنهضة، وكأنه يقول لها إنه من "أنقذها" سابقا (وقد قالها)، وإنه من يقدر على إعادتها لمنطقة "الشبهة"، وعليها أن تبحث لنفسها عن مخرج أو أن تعود إليه "صاغرة"
يوسف الشاهد "الجامح" عن "معلمه" استفاد من تآكل حزب النداء، ونأى بنفسه عن معاركه، وأسس كتلة "التحالف الوطني" التي تحولت بسرعة إلى كتله هامة ومحددة في البرلمان، ثم أعلن يوم 27 كانون الثاني/ يناير 2019، في اجتماع كبير بمدينة المنستير، عن
ولادة حزبه "تحيا تونس".
الباجي الذي أسس حزب نداء تونس، واستجمع من حوله أطياف المعارضة وانتصر بها في انتخابات 2014 ودخل قصر قرطاج رئيسا، هو اليوم أشبه ما يكون بمن يلاحق عصفورا طار من بين يديه، هو يشعر فعلا بأن الشاهد "طار" من بين يدي حزبه،
وطار معه أكثر من نصف كتلة النداء لينضم إلى كتلة "الائتلاف الوطني" التي يستند إليها الشاهد
معززة بكتلة النهضة، تمنعان إسقاطه في البرلمان إذا قرر رئيس الجمهورية عرض الحكومة على منح الثقة.
المشهد السياسي اليوم
وعلى أبواب انتخابات 2019 يبدو متحركا بسرعة، ويتعرض لعملياتِ "عَجن" متتالية؛ لا تكاد تنتزع صورة حوله حتى تفاجئك تحولات جديدة.
الجبهة الشعبية تشهد مرحلة صعبة بسبب "خيبة" مسعاها بملف "الجهاز السري"، حين طلع عليهم محام نسف كل أحلامهم، وكشف عن "معنى" آخر لوثيقة ظلوا يستندون إليها في كل ندواتهم ويظنونها السلاح الحاسم بوجه النهضة، بل وسارعوا إلى المطالبة بحلها قبل أن يقول القضاء كلمته.
معركة داخلية حول مرشحهم للرئاسة قد تهدد تماسكا حافظوا عليه لستة أعوام، وقد تقلص من حظوظهم الانتخابية، وقد لا يحصلون على ما حصلو عليه في الانتخابات السابقة
وها هم في معركة داخلية حول مرشحهم للرئاسة قد تهدد تماسكا حافظوا عليه لستة أعوام، وقد تقلص من حظوظهم الانتخابية، وقد لا يحصلون على ما حصلو عليه في الانتخابات السابقة، وخاصة بسبب فقدان صدقيتهم في استعمالهم أساليب غير سياسية في خصومتهم مع النهضة ("الجهاز السري"، "الغرفة السوداء" "الاغتيالات")، وكلها ملفات خسرتها الجبهة قضائيا..
وجه جديد يُصنع على عجل وبنكهة دستورية وروح حربية ضد الإسلاميين يجتذب إليه كثيرا من فاقدي الأمل في النداء، وحتى في اليسار.. تحاول زعيمته الاستثمار في صورة الزعيم الراحل بورقيبة رحمه الله، وهي تركب حصانا كما ركبه وكما يرمز إليه حصانه في الشارع الرئيسي بالعاصمة.
حركة النهضة تبدو الأوفر حظا في المحطة الانتخابية القادمة، وحزب الشاهد يحقق تقدما سياسيا يؤهله ليكون في المرتبة الثانية، وهو ما يغري صاحبه بالتقدم للرئاسة
تونس التي لم ينتخب فيها في 2014 إلا حوالي ثلاثة ملايين ناخب؛ تتوالد فيها أحزاب بلغت 217 حزبا، ليس ثمة ما يؤكد اختلافها عن بعضها سوى أسمائها، وهي عاجزة عن أن تجد كيمياء سياسية توحدها، سواء بدافعية وطنية أو برغبة في مواجهة "خصم" يُخاصمونه ولا يجدون الطريق إلى الإيقاع به.
حركة النهضة تبدو الأوفر حظا في المحطة الانتخابية القادمة، وحزب الشاهد يحقق تقدما سياسيا يؤهله ليكون في المرتبة الثانية، وهو ما يغري صاحبه بالتقدم للرئاسة.
إن منسوب الحرية العالي مكن الجميع اليوم من ممارسة السياسة في تونس، ولكننا بحاجة أكيدة إلى من يمارسون السياسة بما هي طريق إلى خدمة الناس وليست طريقا إلى السلطة.