ألاعيب الأفاعي!

فجأة ظهر "بوتفليقة" في قلب الأحداث، دون أن يظهر بشحمه ودمه، كعادته في السنوات الأخيرة، بل من خلال بيان قرأه المتحدث بإسم الرئاسة الجزائرية، يعلن فيه تأجيل الانتخابات ويقول فيه إنه لم يكن ينوى الترشح للعهدة الخامسة، نظرا لحالته الصحية والعمرية، وإنه يتفهم مطالب الجماهير السلمية، ودعا إلى تشكيل حكومة من التكنوقراط لإدارة شؤون البلاد، وإجراء حوار شامل قبل إجراء أي انتخابات مقبلة لإرساء أسس جمهورية جديدة تكون بمثابة إطار للنظام الجزائري الجديد!

إنه مزيج من الخطاب الأخير للرئيس التونسي المخلوع "زين العابدين بن على" والخطاب الأخير للرئيس المصرى المخلوع "حسني مبارك"، عندما اشتعل وهج الثورة في كل أرجاء بلادهما مطالبا بإسقاطهما.. إنه خطاب الأفاعي عندما تشعر بالخطر، فتبدأ بالانكماش والبعد عن مصدر الخطر بعض الوقت. لقد أراد هذا الثعلب العجوز أو الجنرالات الثعالب الذين يحكمون باسمه؛ تبريد الأحداث وتجميد الحركة الشعبية بهذا الخطاب الخبيث الذي يحمل الألغام بين طياته. فتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى معناه استمرار حكم بوتفليقة بعد انتهاء ولايته، أي امتداد العهدة الرابعة لبوتفليقة إلى ما شاء الله.. إنه التفاف الأفاعي حول إرادة الشعب..

أما هذا الحوار الشامل الذي دعا إليه وأسماه الندوة الوطنية للاتفاق على شكل الرئاسة وبناء جزائر جديد، فحدّث ولا حرج، فكيف تبنى جمهورية جديدة بسواعد قديمة خرج الشعب لقطعها؟!

هذه الندوة الهدف منها الوصول للأشخاص الذين يقودون الحراك الشعبي، وترك الميادين والانصراف عن المظاهرات التي ضمت جميع أطياف الشعب الجزائري، لضربها ببعضها البعض، وإحداث حالة من الانقسام الحاد داخل مكونات الشعب الجزائري والدخول في متاهات لا حيل فيها، والخروج منها بقرارات ودستور يرسخ حكم الجنرالات، أو ربما لإحداث حالة من الفوضى تبرر لانقلاب عسكري بحجة إنقاذ البلاد، كما حدث في مصر عام 2013..

لقد فعلها المخلوع "حسني مبارك" في تلك الاجتماعات مع شباب الثورة ورؤساء الأحزاب وجماعة الإخوان المسلمين، وهي الاجتماعات التي تولاها نيابة عنه نائبه اللواء "عمر سليمان"، ولم تغنه من السقوط..

وللمرء أن يتساءل: إذا كان حقاً لم يكن ينوي الترشح للرئاسة، فمَن إذن الذي قدم أوراق ترشحه؟!

ولقد لقيت تلك القرارات بالرفض من الشارع الثائر، بل إن مظاهرات الجمعة الفائتة فاقت ما عداها من مظاهرات سابقة، فلن تقف بلاد المليون شهيد عاجزة، مكتوفة الأيدى أمام مَن يريد أن يستخف بها وبشعبها الأبي؛ الذي قدم الملايين من أبنائه قرابين للعزة والتحرر من الاحتلال الفرنسي، ولن يتردد أن يقدم أحفادهم قرابين للكرامة والحرية، كي لا يستغفله أو "يستحمره" هؤلاء الجنرالات الذين يحكمون من وراء مومياء يعلقون صورته ويطالبونه بالولاء له.. لن يقبل الشعب الجزائري أن يكون سخرية وأضحوكة العالم كله، وهو الشعب المتعلم المجاور لفرنسا، والمنفتح على العالم الغربي، المفعم بالحياة والحيوية، والذي يبلغ تعداد شبابه 60 في المئة من الشعب! فكان من الطبيعي والمنطق أن يهب شعب بهذه المواصفات في انتفاضة شعبية هائلة في جميع أرجاء البلاد وتنضم إليها أطياف مختلفة ومتنوعة من الشعب، بل وأعضاء من الحزب الحاكم نفسه، بعد أن قدموا استقالاتهم منه. فبعد أن انضمت النقابات المهنية والأحزاب المختلفة إلى المظاهرات المليونية، أيدها ألف قاض من الهيئة القضائية، هتافهم واحد #لا_لتمديد_الرابعة.

#ترحلوا_يعني_ترحلوا

* * *

استطاعت هذه المظاهرات المليونية كل جمعة أن تهز عرش الجنرالات الذين يحكمون الجزائر من وراء صورة "بوتفليقة"، وها هم يأتون بالرئيس المومياء من مشفاه في سويسرا بعد كل ما سربته وكالات الأنباء عن تدهور في حالته الصحية، وأنه فقد القدرة على النطق ويتغذى ويتنفس اصطناعياً، كي يتخذوا هذه القرارات باسمه، بعدما فشل رئيس أركان الجيش الجزائري في فض المظاهرات مع تهديده الصريح بأن الجيش سيبقى ممسكاً بزمام الأمور، وأنه لن يسمح بعودة البلاد إلى حقبة سفك الدماء، ومتوعداً بمصير العشرية السوداء التي مرت بها البلاد في التسعينيات، متغافلاً أن هذه العشرية من صنع أيديهم، عندما ألغوا الانتخابات التي فاز فيها الإسلاميون.. وهناك العديد من الاعترافات لعدد من الضباط يروون فيها كيف كانوا يرتدون الجلباب ويضعون الذقون ويمسكون السيوف، ويروعون الناس في الشوارع ويقتلون الناس الآمنين في بيوتهم، وإلصاقها بالجماعات الإسلامية التي حملت السلاح بعدما دفعوها إليه دفعا.. هذه الفزاعة التي صنعوها لن تنفع هذه المرة؛ لأن الانتفاضة متنوعة الأطياف تضم العلمانيين والإسلاميين على السواء، لا فرق بينهم، وهدفهم واحد، وهو إسقاط هذه العصابة الحاكمة.

كما فشلوا أيضا باستحضار مشهد الثورة السورية وما آلت إليه، لإثارة الرعب والخوف في نفوس الشعب الجزائري، خاصة بعد تعاطف رجال الشرطة مع الانتقاضة، فما كان من رئيس الوزراء إلا أن وجه كلمة قال فيها: "المواطنون قدموا الورود إلى أفراد الشرطة وهذا أمر جيد، ولكنني أتذكر أن الأمر بدأ في سوريا على هذا النحو بتقديم الورود".. إنه تهديد مستتر للمتظاهرين بتحويل الجزائر لسوريا أخرى، بدلاً من أن يوجه اتهامه إلى الذين أطلقوا النار على صدور مَن يحملون الورود، وأشعلوا الحريق في سوريا بوجه الذين يقدمون الورود لرجال الشرطة!

ومن هنا، يتضح لماذا استدعوا "الأخضر الإبراهيمي" من باريس على عجل، بعد أن اجتمع بالرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" وأخذ منه التعليمات؛ للقاء "عبد العزيز بوتفليقة" وادعائه بأن بوتفليقة "دماغه شغالة مية المية وليس تسعين في المية فحسب"! ولم تمر هذه الألاعيب على الشعب الجزائري الواعي، فرفض تصريحات ماكرون، وهتفوا: "الإبراهيمي برة برة".

كما أن ظهور "محمد بن زايد" ولي عهد أبو ظبي، معقل الثورات المضادة، والتي تحاك فيها كل المؤامرات ضد الشعوب العربية بإشراف الصهاينة، وإبداء دعمه لرئيس أركان الجيش، يثير الكثير من الريبة لما يُعد وُيحضر للجزائر الجديدة!

وهنا نطرح عدة أسئلة: هل لم يجد جنرالات الجزائر، جنرالات النفط والقمح والأرز، والذين يتحكمون بمقدرات البلاد ويستولون على ثرواتها وخيراتها، شخصية أخرى من بينهم تحافظ على مصالحهم وتحمي مكتسباتهم التي حققوها؟! ولماذا الإصرار على بقاء جثة هامدة لا تدري من أمرها شيئاً؟! وهل هؤلاء الجنرالات لم يكونوا يدركون رد الفعل الشعبي إزاء هذه القرارات وأنهم يدفعون البلاد إلى الهاوية؟ أم أنهم يريدون أن تنزلق الجزائر إلى هذا المنحدر، وأن يحرق الأخضر واليابس، وتتحول البلاد إلى فوضى وتتكرر العشرية السوداء التي يهددون بها، أو يتكرر المشهد السورى الذي استحضروه وتوعدوا به؟ وهنا تكون الجزائر البلد الوحيد الذي يبحث عن الفوضى، بينما الشعب يبحث عن السلم والاستقرار.

* * *

لقد قضى الرئيس "عبد العزيز بوتفليقة" ستين عاماً في العمل السياسي، دخل الوزارة في أول حكومة تشكلت بعد الاستقلال، وكان أول وزير للشباب والرياضة والسياسة في عهد الرئيس "أحمد بن بيلة"، ثم أصبح وزيرا للخارجية في عهده، وفي عهد الرئيس "هواري بومدين"، والذي كانت تربطه به علاقات وطيدة وكان الداعم له في انقلابه على الرئيس "أحمد بن بيلة". وظل يشغل هذا المنصب 15 عاماً ونيف، إلى أن توفي الرئيس بومدين، وبعد وفاته تمت تنحية بوتفليقة من كل المناصب في الحكومة والحزب، لمحو آثار الرئيس هواري بومدين، أي "الحقبة البومدينية". كما اتهم في قضايا اختلاس، فغادر الجزائر واستقر في دولة الإمارات، إلى أن عفا عنه الرئيس الشاذلي بن جديد/ ليعود للبلاد مرة أخرى عام 1999، وليصبح رئيساً للجمهورية بدعم كامل من الجيش لأربع مدد متتالية.

يقول أنصاره إنه قدم للجزائر خدمات جليلة، وعمل مصالحة مجتمعية بعد الحرب الأهلية التي استمرت عشر سنوات. وإذا سلمنا جدلاً بصحة هذا الكلام، فهل هذا مبرر لإعطائه صكا رئاسيا مدى الحياة؟! حتى لو افترضنا أنه بكامل صحته الذهنية والبدنية، فما الجديد الذي سيقدمه ولم يقدمه في الفترات الأربع السابقة؟ وما هو الإبداع الذي سيضيفه لبلاده؟!

يُعرف في علم النفس مرض اسمه Hubris Syndrome"" أو "متلازمة السلطة"، ومكتشفه هو الدكتور النفسي "ديفيد أوين"، الذي ترك الطب النفسي وانتقل للعمل السياسي وأُنعم عليه بلقب "لورد".

يقول الدكتور أوين إن الحالة العقلية والجسدية تؤثر على صانعي القرار من الحكام، وأعراض "متلازمة السلطة" تظهر عليه بمجرد جلوسه على الكرسي، وتتلخص بالآتي: النظرة إلى العالم كمكان لتمجيد ذاته بالالتصاق بالقوة، والأولوية في اتخاذ القرار لتضخيم صورته الذاتية، وذوبان الذات مع السلطة، والكلام عن أنه مبعوث العناية الإلهية، وخلط وذوبان مع الوطن، أي أنه هو الوطن والوطن هو، واحتقار وإزدراء آراء الآخرين، واعتبار أن الحق في مساءلته هو من اختصاص الله وليس من حق الشعب، واعتقاده الراسخ ببراءته أمام الله والتاريخ، وفقدان التواصل مع الواقع، وأي أحد ينتقده هو خائن للوطن.. متبلد الإحساس، فالمصاب بـ"متلازمة السلطة" ليس عنده بصيرة لمعرفة سلوكه، وأهم أنواع العلاج هو الوقاية، بحيث لا يمكث أي حاكم أو رئيس أكثر من مدة محددة، حوالي أربع سنوات مع احتمال تجديدها مرة واحدة، أي ثماني سنوات، وليس ثلاثين عاماً، كما في حالة بوتفليقة وسائر حكام البلدان العربية الذين يقبعون على الكراسي حتى الممات؛ يذيقون شعوبهم أشد ويلات العذاب التي تجعلهم يعيشون في قهر لا ينتهي وذل لا ينقطع. ولقد أدرك الغرب هذه الحقيقة وطبقها عملياً، فجعل مدة الرئاسة أربع سنوات تجدد مرة واحدة فقط، لذلك هم في المقدمة ونحن في مؤخرة الأمم..

كلام الدكتور "ديفيد أوين" هذا عن الحاكم الذي يتمتع بالقوة البدنية والصحية، فما بالك برجل طاعن في العمر، يبلغ 83 عاماً، يجلس على كرسى متحرك، ولا يقوى على تحريك عضلاته، ولا يستطيع التحكم في وظائفه البيولوجية، فكيف له التحكم في مصير شعب ومقدرات أمة؟!

نحن بالطبع لا نسخر ولا نستهزئ من مرضه ولا من سنّه، ولكن مَن يسخر منه ويستهزئ به ويحقّره هم جنرالات الجيش، أو كما يطلقون عليهم في الجزائر "أبناء باريس في وطن بن باديس". فهم الذين يصرون على إهانته أمام العالم أجمع، ونسف تاريخه النضالي، بل نسف تاريخ الجزائر النضالي ككل وتحقير شعبها البطل. هل يتذكر أحد الآن، وهو يرى ذلك المشهد الهزلي المتمثل بالوزراء وهم ينحنون لصورة تمثل رئيسهم، أن هذا البلد بلد المليون شهيد؟! وهل أحد يذكر أن هذا الرجل التحق وهو في التاسعة عشر من عمره بصفوف "جيش التحرير الوطنى الجزائري"، الذي ناضل وجاهد وقاتل ضد المحتل الفرنسى، إلى أن تحرر منه وحصل على استقلاله وحريته؟! لقد ذهبت كل صفحات هذا التاريخ المشرف أدراج الرياح، وبقيت صورة المومياء، أو "الزومبي" كما يطلقون عليه في الغرب، وهو مصطلح يطلق على الموتى الأحياء في أفلام الخيال والرعب..

* * *

لقد أعادت لنا المظاهرات المليونية في الجزائر مشهد ثورات الربيع العربي عام 2011، واسترجعنا تلك الأيام الخوالي مع ثورات الربيع العربي وانتصار إرادة الشعوب على قوى البطش والطغيان، قبل أن تنقلب عليها الثورات المضادة، وتعيدها لنفس تلك الأنظمة القمعية. لهذا، تتلاقى أحلام كل عربي حر مع أحلام الشعب الجزائري وتتمنى تحقيقه وتعلق عليه الآمال من جديد.

فهل ثورة الجزائر ستبث الروح من جديد في ثورات الربيع العربي، وكما بدأت في تونس، يعاد إحياؤها مرة أخرى في الجزائر، وتكون بلاد المغرب العربي ملهمة للشعوب العربية؟

نرجو ونتمنى ذلك، فنحن أمة واحدة، تجري في عروقنا دماء واحدة، وتاريخ شعوبها مع القمع واحد، يحكمها جبابرة طغاة ومستبدون لا يختلفون عن بعضهم البعض، وهدف شعوبها وآمالها واحد: الحرية والكرامة والعدالة..