إعلان الرئيس ترامب الطوارئ لأجل بناء الجدار مع المكسيك لا يمثل إلا واحدة من حلقات أزمة سياسية تواجهها الولايات المتحدة منذ بداية الألفية، وتتعلق بالتعبير الشهير الذي يفخر الأمريكيون بوصف نظامهم السياسي به، أي «الرقابة والتوازن». فإعلان ترامب يحدث اختلالاً واضحاً في التوازن المقصود، وينشئ سابقة تنذر بانهيار الرقابة.
والحقيقة أن ترامب ليس أول رئيس أمريكى يعلن الطوارئ. فمنذ أصدر الكونغرس ما يعرف «بقانون الطوارئ العامة» في عام 1976، استخدمه الرؤساء الأمريكيون، بدءاً برونالد ريجان وحتى باراك أوباما، أكثر من خمسين مرة. الجديد هذه المرة هو أن ترامب استخدمه للالتفاف حول واحدة من أهم صلاحيات المؤسسة التشريعية الأمريكية، وفى موضوع رفضت الأخيرة فيه تلبية مطلب الرئيس.
ففي السبعينات، كانت الولايات المتحدة قد خرجت لتوها من أجواء فضيحة ووترجيت التي دفعت بالرئيس نيكسون للاستقالة. ووترجيت كانت فضيحة لأن نيكسون توسع في صلاحياته الدستورية بدرجة غير مسبوقة وغير قانونية في الوقت ذاته.
ومن هنا، سعى الكونغرس بعدها لتكبيل ما صار يعرف «بالرئاسة الامبراطورية»، أي التوسع غير المسبوق في سلطات الرئيس، عبر سلسلة من القوانين التي لم تحرم الرئيس من ممارسة صلاحياته الدستورية ولكنها أنشأت ضمانات وضعت صلاحياته دوماً تحت الرقابة الصارمة من المؤسسة التشريعية.
ولم يكن قانون «الطوارئ العامة» استثناء من تلك القاعدة. فالرئيس هو المسؤول الأول، وفق الدستور، عن أمن الولايات المتحدة وحماية الأمريكيين، وهو ما يتطلب أحياناً التحرك الفوري لمواجهة الأخطار المفاجئة. لذلك أصدر الكونغرس ذلك القانون الذي يمنح الرئيس صلاحية إعلان الطوارئ العامة.
إلا أن القانون جعل تلك الصلاحية مقيدة بموافقة الكونغرس. فإذا ما لم يجد الكونغرس فيما اعتبره الرئيس ما يوجب إعلان الطوارئ، فبإمكانه إلغاء إعلان الرئيس بموجب قرار مشترك يصدر من مجلسيه.
ولأن القرار المشترك يصبح نافذاً بمجرد صدوره، ولا يحتاج لموافقة الرئيس عليه، لم يهتم الكونغرس كثيراً بتعريف الحالات التي توجب إعلان الطوارئ. وقد استخدم الكونغرس ذلك القيد نفسه، أي القرار المشترك، في أكثر من قانون أصدره في تلك الفترة من السبعينات.
غير أن أحد تلك القوانين، لا قانون الطوارئ العامة نفسه، أثار جدلاً شديداً وقتها ووصل للمحاكم الفيدرالية حتى وصل للمحكمة العليا، التي أصدرت حكماً شهيراً في عام 1983، اعتبر مثل ذلك القرار المشترك غير دستوري. لأنه يمثل «فيتو تشريعىاً».
وقالت المحكمة إن الرئيس دستورياً له حق الفيتو على مشروعات القوانين بينما لا يحق للكونغرس أن يفرض فيتو تشريعياً على قرارات الرئيس، وأن على المؤسسة التشريعية، بدلاً من ذلك، أن تصدر قانوناً إذا أرادت فيخضع للفيتو الرئاسى.
بعبارة أخرى، بينما كان الغرض من صدور قانون الطوارئ العامة هو فرض قيد على الرئيس، فإن قرار المحكمة عندما ألغى إمكانية صدور قرار مشترك، صارت للرئيس، بموجب القانون، صلاحيات هائلة غير مقيدة. أما المؤسسة التشريعية فلم يعد أمامها سوى اللجوء للقضاء. ولذلك، مثلما قامت 16 ولاية أمريكية برفع إعلان ترامب للطوارئ للقضاء، أكد الديمقراطيون أيضا نيتهم في رفع الأمر للقضاء.
ورغم أن ترامب ليس أول رئيس يستخدم قانون الطوارئ العامة فلعل إعلانه هو الحالة الأولى، في حدود علمي، التي يستخدم فيها القانون من قبل أحد الرؤساء لتمويل برنامج رفض الكونغرس صراحة تمويله. وهنا تكمن، في تقديري، خطورة قرار ترامب، لأن التمويل من أهم الصلاحيات التي منحها الدستور الأمريكي صراحة للمؤسسة التشريعية دون الرئيس.
لذلك، فإن قرار ترامب يمثل في ظني تكريساً للخلل المتمثل في صلاحيات هائلة للرئيس على حساب المؤسستين الأخريين. «فالرئاسة الامبراطورية» عادت للصعود بقوة بعد أحداث سبتمبر عبر التوسع في صلاحيات الرئيس المتعلقة بحروب أمريكا، رغم أن سلطة إعلان الحرب يملكها الكونغرس وحده.
وهي صارت أكثر اتساعاً اليوم بإعلان ترامب الطوارئ الذي التف حول صلاحية أخرى جوهرية هي سلطة التمويل. وهو الإعلان الذي يمثل سابقة مهمة قد تغري رؤساء مستقبليين باستخدامها لتدبير الأموال اللازمة لمشروعات يرفضها الكونغرس.
لذلك يعول الكثيرون بأمريكا اليوم على المحاكم التي تم رفع الأمر لها، خصوصاً بعد أن قال ترامب بنفسه إنه لم يكن «بحاجة» لإعلان الطوارئ، أي نافياً بنفسه وجود ما يوجب إعلانها.
لكن المحاكم الفيدرالية الأمريكية، وعلى رأسها المحكمة العليا، طالما نأت بنفسها عن تحدي صلاحيات الرئيس إذا ما تعلق الأمر بالأمن القومي أو حماية الأمريكيين. ومن هنا فإن السؤال الأهم هو ما إذا كانت المحكمة ستبحث قرار ترامب وفق ما إذا كان هناك ما يوجب الطوارئ، أم أنها ستبحثه وفق ما إذا كان من حق الرئيس الالتفاف حول صلاحيات الكونغرس الخاصة بالتمويل؟
عن صحيفة البيان الإماراتية