المؤيدون بقّوا، أو يبقّون البحصة: الأسد، ما غيره، سبب الهلاك والدمار؟ هل بات الأسد ممسحة وملطشة ومسخرة حتى للمؤيدين؟ أو لمؤيديه؟ أو لجميع السوريين؟ لم يعد بمقدور أحد اليوم لجم ذاك الضجيج المتعالي، وإسكات كل تلك الأصوات الناقدة والشاجبة والمستنكرة لفشل وتواطؤ الأسد، وتضامنه مع مافيات النهب وشراذم التشليح وطغم الفساد وعصابات القهر والتجويع التي تفتك بعموم البسطاء والفقراء السوريين، كما لن تستطيع كل ماركات عطور العالم تبخير عفن روائح الفضائح الكريهة التي تنبعث تباعا من نظام، بات يتربع عالميا على عروش الانحطاط واللصوصية والممارسات المافيوزية والتردي والفساد والسلب وانهيار النظام العام، ويقف إعلام المسخرة والطبل الذي تديره «فصعونة» تشيواوا فاشلا عاجزا بكل أبواقه، عن الدفاع عن سيل الانتقادات التي باتت تتدفق وتغمر وتتطاول بتهكم مرير على قمة هرم الطغمة الفاشية الحاكمة ورمز النظام الأسقط تاريخيا، وعالميا.
وفي الآونة الأخيرة، بدأنا نشعر بالحرج والإحباط والتواضع والتراجع عن منازلة ومقارعة كل تلك الأصوات الناقدة، وحيث لم نعد قادرين، ألبتة، على مجاراة المؤيدين للنظام السوري في انتقاداتهم وشتائمهم وصرخاتهم المتعالية ضد «آل الأسد» ونظامهم الفاشي. وبدأنا شيئا فشيئا نستمتع بمنشورات المؤيدين وتعليقاتهم على مواقع التواصل أكثر مما نكتب عن الوضع في سوريا. لماذا نتعب أنفسنا إذا كانت غالبية المؤيدين صارت على يميننا في الانتقاد وفضح عورات النظام على كل الأصعدة؟ أليس من الأفضل أن تجلس وتضحك وتقول للمؤيدين الذين بدؤوا يشعرون بالخازوق: «صحتين، أو على الأقل: صح النوم؟».
لا أدري لماذا كانوا يتهموننا بالخيانة والعمالة والارتزاق لمجرد أننا كنا نردد ما يقولونه الآن منذ ثماني سنوات؟ هل كانوا مخدّرين؟ ألم نقل لكم إن الجرح السوري أعمق مما ترون، ولن يؤلمكم خلال الحرب، بل بعدها ستشعرون بألمه الذي لا يحتمل في ما بعد؟ وكما تعلمون، إن الجرح وهو ساخن لا يؤلم صاحبه بقدر ما يؤلمه بعد أن يبرد. والجرح البارد مؤلم جدا. ولا أعتقد أنكم غافلون عن ذلك.
اليوم الأخوة المؤيدون، وأقول أخوة لأننا توحدنا كسوريين، في مواقفنا العامة، وصرنا جميعا مؤيدين ومعارضين في الهم سواء، لا فضل لسوري على آخر إلا بشدة الانتقاد والهجوم على النظام والحكومة، وحِدّة الوجع والمعاناة التي تتفاوت وتتباين بين شريحة وأختها، أقول لهم: «هل قلنا شيئا خاطئا على مدى السنوات الماضية، هل كنا نفتري ونتجنى بشأن هذا النظام الجائر الغاشم الظالم القهري المفتري؟ بالطبع لا. أنتم اليوم أقوى حدة وهجوما منا في هجاء النظام وحكومته.
وهنا أود أن أشكر المؤيد الشهير بشار برهوم، وهو بالمناسبة من «عظام رقبة» النظام وفهمكم كاف، الذي كان يوجه سهامه ويجلد بؤساء الحكومة السورية الذين لا حول لهم ولا قوة، لكنه في الوقت نفسه كان يمتدح نظام «الممانعة» و«المباطحة» والعنتريات الهوجاء الفارغة ليل نهار، التي أودت بسوريا إلى مهلكة ومحشرة لا قيامة منها، وخاصة ما يسمّونه بـ«السيد الرئيس»، على اعتبار أن الرئيس «حاجة تانية»، و«زلمة كويس» لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من وراء شركات لصوص بني مخلوف، لكن، ويا حرام، ويا للوعة والأسى، تبين لاحقا أن كل البلاء متأت وحاصل من حفنة «الأشرار» الملاعين الذين حوله من حكومة ووزراء ومجلس شعب فاسدين. لا أدري كيف كنتم ترددون هذه الكذبة الثخينة، والثقيلة على القلب، مع العلم أنكم كنتم تعرفون البئر وغطاءه وكل «الدياب» التي ترعى خلف المراعي!
لقد انفضح خطابكم، بعدما هزلت وبان عجافكم، وكنتم تتظاهرون، بقرارة أنفسكم، أن رأس النظام خط أحمر، لكنكم متأكدون أنه هو الآمر الناهي في كل شيء في سوريا، ويتحكم حتى في أبسط الأمور في مزرعة العصابات والمافيات. لا ألومكم مطلقا عندما كنتم تعملون بالمثل المصري الشعبي الشهير: «إذا لم تكن قادرا على ضرب الحمار فاضرب البردعة».
على العموم، بعض المؤيدين العتيدين في منطقة الساحل السوري معقل النظام صار يضرب بـ«المليان» وتحت الحزام في الأيام الماضية، ولم يعد يوفر في خطابه حتى «سيادته». فالسيد برهوم الذي كان يبتعد عن انتقاد الرأس الكبيرة، قال في شريطه الأخير: «لقد أصبح أملنا بالسيد الرئيس صغيرا جدا»، على ضوء الأزمة المعيشية الطاحنة التي تحيط بالمؤيدين. ولعمري هذا تطور خطير جدا في خطاب المؤيدين، فنحن نعلم في سوريا منذ 1970 أن بإمكان الناس أن ينتقدوا الحكومة على الناعم جدا، لكن النقد الناعم للسيد الرئيس يذهب بالمنتقدين إلى غياهب السجون وأحيانا وراء الشمس، ومع ذلك تجرأ برهوم على توجيه ضربة قوية لـ«سيادته»، معتبرا أن الأمل فيه صار شبه معدوم. وقد تقدّم برهوم خطوة أخرى عندما قال في أحد تصريحاته التي بثها على الهواء مباشرة في فيسبوك: «أنا على وشك أن أوجه اعتذارا لما كنا نسميها بالقنوات المغرضة، لأننا اكتشفنا الآن أن كل ما كانت تقوله عن النظام وعن سوريا كان صحيحا. ولا تتفاجؤوا إذا قدمتُ اعتذارا أيضا لفيصل القاسم، لأن الرجل كان يقول ما نقوله نحن الآن لا أكثر ولا أقل».
لن أنسى، أيضا، بأنني توقفت عن الكتابة عن أحوال مدينتي السويداء منذ شهور وشهور. لكن ليس لأنني لست مهتما بأحوالها، بل لأن كل الشبيحة في المدينة صاروا يرددون ما كنا نكتبه ونقوله عن النظام قبل سنوات، فلماذا نتعب أنفسنا وننافسهم في الحديث عن أشياء يواجهونها يوميا في لقمة عيشهم، وأحوالهم الأمنية والخطف والنهب والسلب والتشبيح وغلاء الأسعار، واختفاء السلع الأولية والقمع واللصوصية والانفلات الأمني. ها هم أكثر من أربعين ألف شاب في السويداء وحدها يرفضون الالتحاق بجيش النظام. وهذه في نظر النظام خيانة عظمى.
ومن ثَمّ أتساءل: «من الخائن في هذه الحالة في نظر النظام: الإعلامي الذي كان يضع أوجاع الناس وهمومها على الهواء، أم الذين يرفضون الخدمة في جيشه؟» هنا أستطيع أن أقول إنني أصبحت معارضا ناعما جدا، بالمقارنة مع شباب السويداء الأشاوس الذين كانوا يتهموننا بالعمالة، لكنهم الآن يرفضون الالتحاق بالجيش «العربي» السوري.
قد يرى البعض أن انتفاضة المؤيدين على النظام مدفوعة من المخابرات لغاية في نفس يعقوب للتنفيس، أو لتحذير اللاجئين من العودة إلى البلد لأن أوضاعه تحت التحت، لكن مع ذلك، لم يكن بمقدور هؤلاء المؤيدين الذين كانوا يطبلون ويزمرون للنظام على مدى سنوات، لم يكن بإمكانهم أن يرفعوا أصواتهم بهذا الشكل الجريء والتطاول على رأس النظام مباشرة، لولا التضحيات التي قدمها إخوتهم في المعارضة.
لم تكن أصواتكم أيها المؤيدون لتلعلع عاليا لولا أن أشقاءكم اللاجئين والمهجرين والمبعدين والجرحى والشهداء والضحايا قدّموا الغالي والرخيص، كي تتمكنوا أنتم أيها المؤيدون لاحقا لتعبروا عن رأيكم بحرية وبلا خوف، ولولا أننا كنا قد رفعنا الصوت و«العيار» قبلكم بكثير، ومع الاحترام لكل ما تقولونه، فهو ليس إلا صدى، ورجع، وإن كان متأخرا جدا، لما كنّا نردد ونقول من زمن ليس بقصير.
وسلامتكم.
عن صحيفة القدس العربي