يوما بعد آخر، بل ساعة بعد أخرى؛ وثانية خلف برهة أو هنيهة من الزمان، يشعر الشرفاء المخلصون في مصر ممن لا يملكون حيلة ولا يتقلدون مسؤولية.. يشعرون بثقل اللحظة على نفوسهم وأرواحهم وأهاليهم.
وسواء أكان الثوار في مصر أو خارجها، فإن أمواج الابتلاء والمصاعب تتقاذفهم فتأخذ بمجامع الأرواح وحبات القلوب. ومن عجب أننا نجد الطغاة قساة القلوب متحدين؛ فيما الثوار أسوياء الأرواح والأقرب للفطرة في نفوسهم متفرقون.. كلٌّ يكاد يمضي إلى طريق غير الآخر.
ومع الأيام وقسوة المحنة داخل مصر وخارجها، يزداد البعاد وتقوى الفرقة بين شركاء الحلم الثوري. ومن عجب أننا نجد الله تعالى يفتح باب التوبة والعودة لخلقه إن ابتعدوا؛ فيما المضارون اليوم يحفظون سجلات لبعضهم البعض، وكل مجموعة ثورية تنسب للآخرى الويل والثبور وعظائم الأمور، بل صرنا نستمع إلى وجود "علامات استفهام" حول كل مَنْ تجرأ فوصف ونظّر وقيم وطالب بتغيير الوضع والموقف الحالي؛ وعلامات الاستفهام في حالتنا هذه تساوي لفظا يستتر التخوين بوضوح حوله.
أي أننا صرنا في تيه وشتات ثوري لا يعرف إلا ربُ العزة الخالق مداه وحجمَ تأثيره الهائل الأشد المقبل، رغم قسوته الحالية، بل أسلمتنا الأمور إلى انقطاع كما يُقال؛ فإذا ما انبرى وخرج من بين أظهر الثوريين واحد أو مجموعة تُعد أو تُحصى.. مطالبة بالتغيير والتاثير في اللحظة الراهنة، وربما ألحّ أحدهم على وصف أسباب الألم وطرق سبل معالجتها؛ فيكون الحال أن يُتهم المتألم لحال الجمع (المُنادي بالتغيير) في أدق ما يحمله شرفه وشعوره؛ وغالبا المُنادي بالتغيير يكون من أكثر القوم ألما.
ويوما بعد يوم وقطرة بعد قطرة وتكتلا بعد آخر، يجد المقاوم الذي يحث القوم على التغيير نفسه محاصرا مطاردا حتى في أدق أمور حياته عموما.
وتبقى الأسئلة هنا بالغة المرارة:
فإذا كان الشباب والكهول يزلزلون من أخمص أقدامهم حتى أعلى رؤوسهم.. فكيف يحارب القوم المُنادون بالتغيير والبحث عن حل للموقف الحالي؟ وصدق الشاعر الذي اشتكى حاله، فقال للذي يحبه: كيف لي أن أتصرف إذا كانت محاسني التي أدل وأتعزز بها على الآخرين لديك (صارت) عيوبا؟
وإذا كانت القاطرة الثورية وصلت إلى هذا المآل والمصير البالغ الإيلام.. فكيف يمكن أن يحدث التغيير؛ والقوم (الثوريون) يرون أنه ما لم يكن في الإمكان أفضل مما كان، وأنهم لا عتب ولا تقصير ولا خطأ ولا خطيئة لديهم، بل إن كل ما سبق يصب في "روح" كل واصف لموقعهم الحالي وأمرهم الجاري الشديد الألم والإيلام؟!
وإذا كان رب العزة يقرب من بعد المُخطئين في حقه، فكيف والقوم يزدادون قسوة على الواصفين لقسوة حالهم؟
وفي هذه الأجواء والأحوال والملابسات والظروف.. وإذا كان طرف من المُكون الثوري يستبعد ويستغني بل يحاصر فريقا من المضارين بحجة أن "عليهم علامات استفهام"؛ لمجرد أنهم ذكّروهم بخطأ الطريق الذي يسلكونه وسوء الدرب الذي صاروا عليه.. وذكروهم أيضا بأن المواقف الثورية لا تعرف الثبات بحال من الأحوال، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وقّع صلح الحديبية حقنا لدماء صحابته والمشركين معا، وأنه دخل مكة كاتما موعد فتحها حرصا على عدم إسالة الدماء، وأن خالدا بن الوليد انسحب من غزوة مؤتة لما علم أن المسلمين من جيشه سوف يُبادون عن بكرة أبيهم.. واستقبلهم الرسول العظيم من بعد على أبواب المدينة قائلا:
- مرحب بالكرار!
أي الذين سيعاودون بعد قليل غزو أعدائهم.
وإذا ما كان في الجمع والقوم من لا يعرفون تعددا في الرأي ولا اختلافا في القول والتوجيه ومواجهة التحديات، فإذا كان في القوم مَنْ لا يعرفون ذلك.. فكيف نتوقع نهاية للمأساة الحالية أو مجرد تغيير لها؟
إن الكلمات تصدر وفي الفم ماء شديد الإيلام.. كنا نفترض ونظن أننا سنناقش اليوم تكتيكات وحجم قوة المسيرة، فصرنا نناقش أدق تفاصيل الإبجديات من النقاط والهمزات فوق أي ألف؛ ألوصل أم القطع؟
أي أننا لا نناقش إلا أقل القليل وأبسط البسيط، وأكثر الحديث إيلاما.. فإذا كنا لا نعرف مجرد تعدد الرأي والسماع للصوت الآخر داخل معسكرنا إن باح لنا ونشر ووصف حقيقة موقفنا.. إذا كنا نعادي بوضوح هؤلاء.. فكيف ننتظر تغييرا لمرير مواقفنا واستعادة لحلمنا الثوري؟!