تمحورت الشعارات الرئيسية للثورات العربية منذ انطلاقتها حول مطلب أساسي يتمثل بضرورة التغيير وصولاً إلى انتشار الديمقراطية بمفهومها الواسع، حيث يؤسس المفهوم المذكور لمبدأ حرية الفرد من جهة، والمشاركة الجماعية عوضًا عن الديكتاتوريات العربية السائدة من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أهمية المطالب المشار إليها برزت مطالب أخرى في ميادين التحرير والتغيير العربية في المقدمة منها العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن ضرورة العمل على تحسين المؤشرات الاقتصادية، حيث تفاقمت خلال العقود الماضية مؤشرات البؤس في إطار الاقتصاد السياسي في غالبية الدول العربية؛ نظرًا لتحكم الديكتاتوريات بالمال العام وهدره لصالح النظم الحاكمة واستمرارها.
لقد اشتدت وطأة القبضة الفولاذية للنظم العربية الحاكمة في غالبية الدول العربية منذ ستة عقود خلت، وبات المواطن العربي أسيرا لمصطلحات عديدة فرضتها تلك النظم الاستبدادية، التي كانت المحتكر الوحيد للثروات الوطنية، فضلاً عن كونها الناظم القسري لحركة المجتمعات العربية ونشاطاتها المختلفة، في الوقت الذي تتطلع فيه تلك المجتمعات إلى بناء المؤسسات التي تعبّر عن ديناميكية المجتمع وقدراته وقواه الحقيقية وكفاءاته المتشعبة.
حقائق حول الثروات العربية
يزخر الوطن العربي بثروات هائلة ومتنوعة يتم احتكارها من قبل النظم العربية المستبدة، فمساحة الوطن العربي كبيرة مقارنة بباقي الأقاليم في العالم، حيث تصل مساحة الدول العربية إلى (14) مليون كيلومتر مربع، تمثل (4) في المائة من مساحة العالم. ووصل عدد السكان إلى (380) مليون نسمة خلال العام الحالي 2019، نصفهم من الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر. و يساهم الوطن العربي بنحو (30) في المائة من إجمالي إنتاج النفط في العالم كما يستأثر بـ (60) في المائة من احتياطي النفط العالمي.
إقرأ أيضا: أموال العرب تهدر بلا نفع على أيدي بعض حكامهم
وقدر الناتج المحلي للدول العربية خلال السنوات الأخيرة بنحو(5) تريليون دولار سنوياً (5)؛ أي أن الوطن العربي يتبوأ المرتبة الرابعة من حيث قيمة الناتج المحلي الإجمالي، بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين ودول الاتحاد الأوروبي. وثمة إمكانية لاستثمار (84) مليون هكتار من الأراضي القابلة للزراعة في السودان، وإنتاج (760) مليون طن من القمح سنوياً، وبالتالي القدرة على جسر الهوة للفجوة الغذائية التي تعاني منها غالبية الدول العربية المدينة .
النظم العربية بين الفساد والإفساد
صحيح أن ثمة نقابات ومنظمات مجتمع مدني برزت في العديد من الدول العربية، إلا أنها بقيت محكومة بقوانين تمنع ظهور قيادات ورموز وقدوات وطنية لها امتدادها الجماهيري الذي تعبّر عنه، فالحزب والقائد الخالد هو الذي يجب أن يسود في خطاب تلك النقابات والمنظمات وأدبياتها، وانتشرت ظاهرة الفساد والإفساد لتصل إلى أهم سلطة في الدولة، ألا وهي سلطة القضاء، ولتصبح الرشوة سيدة الموقف، وليصبح الحق باطلاً والباطل حقا في غالب الأحيان، لكن الحكم والجلاد يبقى في نهاية المطاف سلطة العسكر، العسكر وحدهم، ولتنتشر بعد ذلك ظاهرة الفساد والإفساد والتسلّط في مناحي الحياة كافة في غالبية الدول العربية مع استمرار تبوأ تلك النظم ريادة الحياة السياسية والاقتصادية.
إقرأ أيضا: المرزوقي: الأنظمة العربية تحتضر.. والمنطقة قابلة للانفجار
أدى ذلك إلى تحكم أقلية من السكان التي تعيش على فتات النظام السياسي القائم بالقسم الأكبر من الدخل القومي لهذه الدولة أو تلك، في حين بقيت أكثرية المجتمعات العربية عرضة لتفاقم ظاهرة الفقر المدقع والبطالة. في مقابل ذلك يتوزع الدخل القومي بشكل أكثر عدالة نسبياً في الدول المتطورة، وبالأرقام ثمة عشرون في المائة من سكان الوطن العربي يستحوذون على تسعين في المائة من الدخل القومي، الأمر الذي يجعل ثمانين في المائة من السكان تحت خط الفقر، ويضعف خياراتهم، من صحة وتعليم ورفاه اجتماعي.
الإنفاق العسكري على حساب التنمية
يلحظ المتابع لتطورات المشهد العربي سطوة العسكر على كافة مقاليد الحياة في غالبية الدول العربية، حيث تبوأ العسكر السلطة إثر استقلال غالبية الدول العربية خلال العقود الستة الماضية، وتمّ إخضاع المؤسسة العسكرية لتوجهات النظم، حيث لم يتم تشكيل الجيوش وصياغة المؤسسة العسكرية بشكل يلبي تطلعات الشعوب العربية وتطورها، ناهيك عن حفظ الأمن والسلم الأهليين، وحماية الأوطان من أي عدو خارجي يتربص بالدول العربية ومقدراتها الوفيرة، وكانت موازنات الجيوش العربية ومازالت عبئاً إضافيا على الشعوب العربية والتنمية المستدامة.
إقرأ أيضا: السعودية تخصص 51 مليار دولار للإنفاق العسكري في 2019
وفي هذا السياق تشير دراسات إلى أن إجمالي الإنفاق العسكري والأمني التراكمي للبلدان العربية قدِّر بنحو تريليون و(385) مليار دولار خلال فترة ما بين 2002 و2017، أي بمعدل 75 مليار دولار سنويا ومرد ارتفاع الإنفاق العسكري والأمني للبلدان العربية توسع غالبية حكومات البلدان العربية في زيادة عدد أفراد الجيوش والأجهزة الأمنية، وشراء أسلحة ومعدات عسكرية وأمنية، ورفع رواتب العسكريين وأفراد قوات الأمن بمختلف مسمياتها، وبهذا تصل نسبة الإنفاق الدفاعي العربي إلى (7) في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في معظم الدول العربية خلال السنوات العشر الماضية، وهي من أعلى النسب في العالم، وتبعاً لذلك يفوق حجم ما تنفقه الدول العربية وبلدان أخرى في العالم الثالث على المجال العسكري، مايتم إنفاقه على التنمية الاقتصادية والمجتمعية والبنية التحتية وخلق فرص عمل والتعليم والصحة والبحث العلمي وغيرها، ويترجم ذلك بعدم إخضاع الإنفاق على التسلح والأمن لمعايير تراعي ضرورات أن لا يؤثر على متطلبات تنمية مستدامة ومتوازنة، ومعالجة المعضلات الاقتصادية والفقر والعوز في الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية.
ويتبادر للذهن في ظل تبوأ البلدان العربية المركز الأول عالميا في الإنفاق العسكري والأمني، مقارنة مع الحجم الكلي للناتج والإنفاق المحلي للبلدان العربية، أن ثمن طائرة مقاتلة قد يصل إلى (100) مليون دولار يكفي لتشجير 240 كيلومترا مربعا، وهذا المبلغ كفيل بإنقاذ موريتانيا من مشكلة التصحر التي باتت تهدّد العاصمة نواكشوط، بعد أن ابتلعت الكثير من البلدات والقرى الموريتانية، كما أن توجيه بعض الأموال للاستثمار في قطاع الزراعة في السودان، من شأنه أن يجعل السودان سلة للغذاء العربي، كما يمكن للبحث العلمي أن يحقق قفزة نوعية لو حُوِّل لصالحه جزء من الإنفاق العسكري والأمني العربي، فالإنفاق على البحث العلمي في البلدان العربية لا يتجاوز (0.02) في المائة من الموازنات العامة، وبالأرقام يعادل ذلك (14،7) دولارا أمريكيا للفرد، في مقابل (1205) دولارات للفرد في الولايات المتحدة، وحوالي 531 دولارا للفرد في دول الاتحاد الأوروبي. وهو ما يؤكد أن الفجوة العلمية بين البلدان العربية والبلدان المتقدمة ليس مردها ضعف الإمكانيات المادية، بل عدم الاهتمام بالبحث العلمي ومخرجات التعليم، حيث تعتبر عملية الارتقاء بالبحث العلمي العربي من المقدمات الأساسية للتنمية المستدامة ورفع سوية المواطن العربي.
ضعف الخيارات
اللافت أن احتكار المال من قبل النظم العربية وارتفاع النفقات على الجيوش العربية أثرّ بشكل سلبي على الشعوب العربية، حيث تراجعت خيارات المواطن العربي الصحية والتعليمية، ناهيك عن انخفاض معدلات التنمية البشرية مقارنة مع الأقاليم ودول العالم.
إن زيادة الإنفاق العسكري في الدول العربية، وتراجع أوجه الإنفاق الأخرى على البحث العلمي والتنمية ومعالجة مشكلات الفقر والبطالة والأمية وتدهور البيئة والتصحر، تعتبر دلالة خطيرة جداً، خاصة في ظل عدم انحياز الجيوش العربية للشعوب العربية إبان انطلاقة ثورات الربيع العربي المطالبة بالحرية من النظم الاستبدادية التي نالت من الاقتصاد والتعليم والثقافة، وعملت إلى صناعة وطن بحجم ديكتاتور.
إقرأ أيضا: دولتان عربيتان ضمن قائمة الدول ذات التعليم الجيد (إنفوغراف)
العرب بين ضياع المشروع وغياب الزعامة
التطبيع من بيريز والفلول القدامى.. إلى نتنياهو والفلول الجدد
الصراع الإسلامي العلماني وبقاء حالة اللاحرية