طفلة هي في عمر الزهور، حملها القدر من بيتها إلى الشارع، لم تخرج إلى المدرسة لتتلقي تعليمها الأساسي كحال قريناتها في تلك المرحلة، فقد كانت بوابة المصرف ومرآب السيارات الذي اعتادت أن تقف بجوارهما لتبيع الحلوى واللبان للمارة هما مدرستها ومقعدها وحقيبتها؛ فتمسك بثوب هذا وتترك ذاك، بلغة أقرب للتوسل منه للبيع، فيقبل البعض ليشتري منها، ومشاعر الحزن والشفقة تجتاح قلوبهم، ويصدها آخرون ويعرضون عنها بنظرات أكثر قسوة من القدر الذي أخرجها في عمر الفراشات بين سُخام السيارات، وضجيج الطريق، ونظرات المارة.
كانت الطفلة المعذبة المهيضة، معروقةَ العظام، شاحبةَ الوجه، متلفعةً ببعض المزق البالية، غارقةً في البؤس والكآبة لا تعرف الكثير من الإجابات التي يقذفها بها العابرون دون رحمة ولا شفقة، سوى أن أباها الذي كان يعمل ملحقاً عسكرياً ويتقاضى الأجور المجزية قد أضحى يتعاطى المخدرات، حتى أصاب البيت الإملاق الشديد، ولم يعد هم هذا الشيطان سوى أن يلقي بسمعه لصفير السخرية الودود، ويبحث عن المال بأي وسيلة ليشتري عقار الموت حتى لا تنهار أعصابه، وتضطرب أعضاؤه، وتتفكك أوتاره، ويمعن في البيت التخريب والتهشيم لكل ما يراه أمامه.
كانت الأم تلوذ بزوجها المدمن لتوفير بعض مستلزمات البيت، فلا تجد معه المال؛ فكله يذهب لشراء السم ليعيش حياته غائباً عن الدنيا، وتعيش أسرته غائبة عن نكهة السعادة، فأزجوا أيامهم ولياليهم جوعى أو على بقايا كسر الخبز التي يجمعها أبناؤه من أهل الخير والمحسنين في المدينة.
لم يكفِ هذا الشيطان راتبه الشهري لإشباع شهوته المريضة، وأمعن في أبنائه وزوجته الضرب والتنكيل للحصول على المزيد من المال ليبقى غائباً عن الدنيا، فلربما غيابه السرمدي إلى عوالم العدم أكثر رأفة بهذه الأسرة التي طحنتها الحياة ودارت عليها رحى الأمل الحاثر. لم تجد ابنته الصغيرة سبيلاً سوى ترك المدرسة، والخروج للعمل في الشارع وهي في عمر الفراشة الصغيرة.
ظلت الطفلة ابنة الثانية عشر ربيعاً تبيع الحلوى واللبان متجولة بين باب المصرف ومرآب السيارات حتى مضى من عمرها عامين كاملين وهي على نفس الحال، لا تحفظ من سنين الطفولة التي لم تلبس عقدها اللآلئ أي شيء عن ذكرياتها الذاوية، اللهم إلا صوت أبواق السيارات، وصيحات المارة، ورائحة الدخان الذي لا يجدي معه الزكام، لكن قسوة الأيام صقلت شخصيتها وأمدتها بكثير من العناد والقوة، وفجرت في داخلها ينابيع الإصرار، وتحدي بؤس الحياة السخي، وعسف القدر. وفكرت بعد فترة من عملها الشاق واقفة على أقدامها لأكثر من عشرِ ساعات متواصلة باستئجار كشك صغير تبيع فيه الزهور ومستلزمات الزينة؛ لإشباع غريزة أبيها الذي لا تراه إلا طريحاً على الفراش أو مترنحاً في زوايا البيت، يصيح من أثر مستحضرات الموت الجاهزة التي أدمن عليها منذ سنين، واستحالت عليه سبل العلاج.
كلما وقع نظرها على قريناتها وهن يغدون ويعدن الطريق، يرتدين الزي المدرسي (المريول المخطط)، سرت في كيانها نوبات من القشعريرة الشديدة، وتهادت الدموع على وجنتيها التي صنعت بهم الحياة نتوءاتها وهي في عمر الزهرة الباسقة التي لم تتفتح أكمامها على الحياة، ثم طفقت في غيبة من شرود الفكر والسرحان ليست كغيبة والدها اللعين الذي سلب من قلبها الغض الطفولة قبل أن تشتم رائحتها الطازجة. كانت تحلم أن تبقى طفلة مكتملة الطفولة، تذهب إلى المدرسة، تمرح مع قريناتها، تقرأ الدرس، وترسم في كراسة الفنون الجميلة كل ما يجول في خاطرها وينعش قلبها، لا تفكر في تحمل المسؤولية، وترابط بجوار المصرف، او تسير متجولة في مرآب السيارات! يا لأنوثة غابت ملامحها في جحيم المجتمع، وضنك الحياة، وسديم الذاكرة! كم من طفلة مثلها طواها الزمان بأكفانه، وشردتها الأيام في فيافي الأرض، وغابت في أحشاء المجهول!
وذات يوم أخبرتها أمها أن شاباً لا يتجاوز الثامنة عشر ربيعاً، يعمل سائق أوتوبيس قد تقدم لخطبتها، وحاولت الأم التي أخنى عليها الدهر أن تقنع ابنتها بالموافقة للخروج من جحيم الحياة، والتحرر من السجن الذي ترسف في أغلاله منذ أبصرت عيناها الحياة. حاول الأب الجشع وضع العراقيل والأعذار أمام مستقبل ابنته المسكينة حتى لا تضيع الأموال التي يشتري بها جرعات الموت، لكنه فشل في تقرير مصير الفتاة التي شبت وسط زحام السيارات، وفوضى الطريق، وظلم المجتمع الذي لا يرحم صغيراً ولا يعطف على كبيرٍ.
كان زوجها أشبه بدمية صغيرة أو قط داجن لا يعرف عن المسؤولية والحياة أي شيء، ولا يرى في نفسه الرجولة والذكورة إلا إذا انهال عليها بالضرب بلا سبب وأدمى وجهها، وأصاب أطرافها بالكدمات والرضوض! كلما حاولت الزوجة أن تتصالح معه وتغير من سلوكه السادي الأهوج، أمعن في العنف الجسدي، والتعنيف النفسي، ونعتها بصفات أبيها الهائم في ضباب الموت. أنجبت المرأة من زوجها اللئيم طفلاً وطفلة كانا يسريان عنها الكثير من الهم والغم، وتتعزى بهما كلما أطبق عليها هذا الشرير بقواطعه، وطحنها بين أنيابه، وهزتها الحياة بكآبتها الوقور! توالت محاولات الفتاة المسكينة للتفاهم مع هذا الزوج الغرير للمحافظة على طفليها؛ فهما رصيدها الوحيد في هذه الحياة التي لم تعرف فيها طعم الراحة، لكنه لم يكترث بذلك، فما يعنيه فقط شرب السجائر والنرجيلة والسهر إلى آخر الليل.
أيقنت الزوجة أن الحياة مع هذا الوغد أصبحت أقصر من عمر السيجارة التي يطبق عليها بين أصابعه، رغم علمها أن الطلاق ليست قصة نجاح يمكن أن تسجلها الفتاة في سيرتها الذاتية، وليست مدعاة للمفخرة والسعادة؛ لا سيما أن بيت أبيها لا يقل بؤساً وتعاسةً عن تجربة الزواج الفاشل الذي عاشته مع هذا الشاب. وكيف سينظر المجتمع اليوم لفتاة مطلقة كانت بالأمس القريب تتجول بين المصرف ومرآب السيارات تبيع اللبان والحلوى؟
لكن الفتاة التي صقلتها الحياة، وصنعت منها الشدائد صنيعها، كانت قادرةً أن تعيد تقرير مصيرها من جديد وتقرر الانفصال لتعود فصول وتفاصيل البؤس الرزين وقد تناوبت عليها الأقدار بأحمالها الثقيلة، وجثت على صدرها مسؤوليات أخرى؛ مسؤولية طفل وطفلة أصبحا بلا معيل، لا تكفيهما نفقات الحضانة والرضاعة التي يدفعها أبوهما كل شهر، وهي التي لا تستطيع العودة إلى كشك الزهور الذي تركته قبل سنين.
وسط تجربة الزواج القصيرة تعلمت المرأة كيف تكون طاهية بارعة، تعد الوجبات الشهية بأقل التكاليف، وذات يوم قرأت الأم إعلاناً في الجريدة الرسمية، تعلن فيه إحدى الجمعيات الخيرية عن حاجتها لتشغيل طاهية في مقصف الجمعية لتفوز المرأة المكافحة بهذه الوظيفة، وتصبح طاهيةً متخصصةً في إعداد الوجبات الغذائية، وتثبت جدارتها وبراعتها في مقارعة الحياة.
كانت الأم بارعة في إعداد الفطائر وأطباق الحلوى للأطفال الأيتام الذين تقوم الجمعية برعايتهم وتعليمهم؛ فأحبها
الأطفال، كيف لا وهي تعاملهم بنفس الرقة والدفء الذي توزعه على طفليها، وذاع صيتها الطيب، وسمعتها العطرة بين جميع العاملين في الجمعية، وشعر البعض بالغيرة والحسد من أم فقيرة استحوذت على عقول الجميع، وهي لم تتم عامها الأول في الوظيفة، حالها حال الكثير من المؤسسات التي يحكمها قانون البحر، كالسمك تماماً، تأكل السمكة الكبيرة الصغيرة حتى أنك تجد في بطن السمكة الواحدة عشرات الأسماك الصغيرة، تبتلعها مباشرة ولا تكلف نفسها بمضغها، وهكذا تسير حياة البشر في كثير من الحواضن الاجتماعية، بلا قانون، ولا وازع، ولا أخلاق.
أقنعها القدر الودود أن تبقى مطلقة وتعيش مع أطفالها الصغار، وترفض الارتباط بأي شاب، حتى رئيس الجمعية الذي أفضى لها بحبه الطاهر البريء، وماذا يطفئ نار الحب غير البوح! فالحب لا يقيس المسافات، أو المستويات، أو الطبقات، ولا ينظر إلى خطوط المجتمع الباهتة، لكن من يضمن ألا تعود إلى السجن الذي تحررت منه مرة أخرى؟ وما مصير أطفالها الصغار الذين أصبحوا على مشارف الالتحاق بالمدرسة؟ وبينما هي غارقة في تفكير عميق، حلقت أمامها فكرة حاولت الاستقرار في كيانها لبعض الوقت وتساءلت: أليس من حق فتاة ريانة في عمر الزهور أن تتزوج قبل أن يخبو رحيقها؟ تباً لهذا المجتمع الذي لا يعرف الرحمة! وانبجس الدمع الهتون من عينها، وخفق قلبها المعنى، ثم نظرت إلى طفليها الصغيرين وقبلت أيديهم ومسحت على رؤوسهم وقالت بصوت أكثر رجولة من طليقها الداجن وأبيها الذي ما زال ينتظر صفعة الموت الأخيرة: لن أكون حثاءً في قِدر المجتمع يطهوني متى شاء على ناره الهادئة.