في الذكرى الثامنة لثورة الحرية والكرامة لا شك أن ذاكرة التونسيين حبلى بعديد المكتسبات زادت من تمسكهم بالخيار الديمقراطي الذي بات مفخرة التونسيين في المنطقة و في العالم.
لكن هذا لا يخفي قلقا واسعا لدى شريحة واسعة من التونسيين على المستقبل، قلق يصل إلى حد الإحباط عند الحديث عن الوضع الاقتصادي الصعب الذي يثقل كاهل ميزانية المواطن.
ولعل المؤشر الأكثر خطورة في هذا الصدد أن يقاطع التونسيون صناديق الإقتراع في الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة خريف 2019 وفق ما تبرزه أغلب مؤسسات سبر الآراء في البلاد.
مكاسب بالجملة
أن يتحاور فرقاء سياسيون في عالمنا العربي من مختلف العائلات السياسية ويتوج حوارهم بجائزة نوبل للسلام فلا شك أن هذا النوع من الأحداث قد يعد من نسج الخيال للوهلة الأولى، إلا أن تونس صنعت الحدث عندما حاز الرباعي الراعي للحوار الوطني على جائزة نوبل للسلام للعام 2015.
فتونس اليوم هي الديمقراطية الأولى عربيا، وهي التي سجلت أعلى نسبة تطور إيجابي على الصعيد الدولي في مؤشر التطور الديمقراطي في السنوات التي تلت الثورة.
وقد عززت تونس انتقالها الديمقراطي بجملة من المكاسب، ففضلا عن سلاسة التداول السياسي على السلطة بإنجاز ثلاث محطات انتخابية ديمقراطية في ثماني سنوات، تعتبر البلاد اليوم مرجعا مهما في الإعلام الحر خاصة مع الاتفاق الإطاري الذي وقعته الحكومة التونسية مع نقابة الصحفيين في الأيام الماضية، إلى جانب استقلالية القضاء الذي تعزز بتركيز المجلس الأعلى للقضاء سنة 2017.
كل هذه المكاسب وغيرها يؤكد نجاح تونس في تحقيق الإنتقال السياسي ولكنه ظل بعيدا عن إيجاد حلول للمعضلة الاقتصادية حتى الآن.
الفساد : الداء العضال
لم يفجر التقرير 31 لسنة 2018 لدائرة المحاسبات مفاجأة عندما أكد أن الفساد ينخر جملة من مؤسسات الدولة وأن الخسائر السنة الماضية كانت بمئات الملايين بالدينار التونسي بسبب سوء التصرف في المال العام.
يُذكر أن معدل تونس في مؤشر مدركات الفساد كان 41 من مجموع 100 سنة 2012 ولم يتغير سنة 2013 ثم تراجع سنة 2015 إلى 38 من مئة ليعود في سنة 2016 إلى المعدل القديم وهو 41 من مئة وهو ما كان يقابل الترتيب 75 من 176 دولة وفق تقارير منظمة الشفافية الدولية.
ورغم إعلان رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد عن حربه ضد الفساد في تصريح مثير في 24 مايو 2017 إلا أن الأمر كان أقرب للاستهلاك الإعلامي في ظل الحصيلة الضعيفة التي حققتها هذه الحملة فضلا عن شبهة تلاحقها بتوظيفها ضد خصوم سياسيين.
ولعل الحدث الأبرز في هذا الصدد هو المصادقة على ما سمي بقانون المصالحة الإدارية كما تمت تسميته في نسخته الأخيرة والذي دفعت به رئاسة الجمهورية لقبة البرلمان لتتم المصادقة عليه يوم 13 سبتمبر 2017 رغم حجم الرفض الذي واجههه من عدد كبير من منظمات حقوقية وطنية ودولية فيما اعتبر تكريسا للإفلات من العقاب.
إرهاب تحت الطلب
مازال الإرهاب - رغم النجاحات الأمنية الكبيرة خاصة مع حكومة السيد الحبيب الصيد – فاعلا سياسيا أساسيا في المشهد التونسي.
فالمتابع للأحداث الإرهابية في تونس بعد الثورة يعلم جيدا أنه كان يتحرك ضمن أجندة تستهدف اسقاط التجربة وضرب الوحدة الوطنية خاصة مع الاغتيالات السياسية التي أودت بحياة الشهيدين بلعيد والبراهمي سنة 2013 والتي جاءت مع تعاظم رياح الثورة المضادة في أكثر من قطر من أقطار الربيع العربي.
وقد كان الإرهاب يتخذ إستراتيجية المباغتة ومحاولة تحقيق إنتصارات معنوية على حساب قوات الأمن والجيش التونسي وصلت لحد هجوم مسلّح ضدّ منزل وزير الداخلية آنذاك القاضي لطفي بن جدو بالقصرين في الليلة الفاصلة بين 27 و28 مايو 2014.
بعدها فقط بسنتين كانت وقائع عملية بنقردان في الجنوب التونسي هي الأكثر دموية في تاريخ العمليات حيث عرفت مقتل 7 مدنيين و 11 عسكريا والقضاء على 49 عنصر إرهابيا و ذلك إثر هجمات متزامنة على نقاط أمنية وعسكرية مختلفة بمدينة بن قردان الحدودية في محاولة لوضع اليد على المدينة وإعلانها إمارة إسلامية وفق التصريح الرسمي لوازرة الداخلية التونسية.
وتسعى الحكومة التونسية لمزيد التضييق على هذه الآفة خاصة بعد المصادقة في العاشر من هذا الشهر على مشروع القانون الأساسي المنقح لقانون مكافحة الإرهاب وغسل الأموال والذي جاء بعدما قام الاتحاد الأوروبي بتصنيف تونس ضمن قائمة سوداء للدول عالية المخاطر في علاقة بتمويل الإرهاب وتبييض الأموال.
وتبقى الحقيقة الأهم في هذا الصدد أن التونسيين باتوا أكثر صلابة في مواجهة هذه الآفة خاصة مع النجاحات الأمنية المهمة في الفترة الأخيرة.
توافقات هشة وأحزاب متهالكة
منذ إنجاز أول انتخابات ديمقراطية في خريف 2011 تداول على حكم البلاد 10 حكومات في أقل من ثماني سنوات في دلالة واضحة على حجم الصعوبات التي تعيشها العملية السياسية في إيجاد توافقات صلبة قادرة على الصمود في وجه التحديات المتعاظمة في البلاد.
ورغم أن التوافق الذي حكم البلاد طيلة هذه الفترة قد نجح في تجنيب البلاد شبح السقوط في الاقتتال الداخلي إلا أنه لم ينجح في إيجاد حلول لمشاكل البلاد الاقتصادية، ولعل الأزمة الأخيرة التي انتقلت إلى مؤسسات الدولة بين رأسي السلطة التنفيذية (رئيس الدولة و رئيس الحكومة) رغم انحدارهما من نفس العائلة السياسية ونفس الحزب ليؤكد أن التوافق في البلاد فرضته الأحداث وموازين القوى ولم يتحول بعد إلى ثقافة سياسية لدى بعض الأحزاب السياسية.
إن الأرضية التي تقف عليها السياسة في تونس بعد الثورة مازالت رخوة وأقصد هنا الأحزاب السياسية بالأساس، وباستثناء حركة النهضة التي تبدو متماسكة وقوية فإن بقية العائلات السياسية مازالت تبحث عن نفسها لارتباطها بمشاريع شخصية وقيامها على الضد وعدم قدرتها على الصمود في مناخ الديمقراطية.
هذا الوضع جعل من اتحاد الشغل أكبر المستفدين واستطاع طيلة السنوات الماضية أن يتحول أحد أهم المتحكمين في المشهد ووصل الأمر إلى حد إعلانه على لسان أمينه العام السيد الطبوبي أن الاتحاد معني بالانتخابات القادمة خريف 2019 بما يعتبر معطى نوعيا قد يغير الخارطة الانتخابية.
مطلبية على حساب الإصلاحات
أورد التقرير الذي صدر في شهر ديسمبر 2018 لمؤسسة كارينغي للسلام الدولي تحت عنوان "أهداف تونس الثورية لا تزال عالقة" أن تونس حلّت مؤخرا مكان أريتريا بكونها البلد الأكثر تصديرا للمهاجرين لإيطاليا عبر البحر ومنذ عام 2011 غادر البلاد زهاء 100 ألف من العمال المهرة و المتعلمين.
ففي ظل غياب حوار وطني يعالج القضية الاجتماعية في عمقها وأمام واقع المطلبية العالية الذي أفرزه الوضع الثوري حصل انحراف كبير في سلم الأولويات أفرز نزيفا في ميزانية الدولة ذهب لغرض الزيادة في أجور العمال.
فضلا عن تراجع الإنتاج في أكثر من قطاع بسبب الإضرابات التي بلغت مستويات غير مسبوقة و كلفت البلاد ملايين الدولارات خاصة في انتاج الفسفاط و الذي أثر بشكل مباشر على مخزون البلاد من العملة الصعبة.
لقد عجزت كل الحكومات المتعاقبة عن تدشين الإصلاحات الكبرى و استسلمت لأجندة اتحاد الشغل الذي نجح في احتكار الملف الاجتماعي بماكينته الضخمة التي تضم زهاء 700 ألف منخرط من العمال.
وحتى حوار قرطاج الذي دعى إليه رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي في صيغته الأولى والثانية الذي ضم المنظمات الاجتماعية الكبرى مع أهم الأحزاب في البلاد لم ينجح في إيجاد الحلول للقضية الاجتماعية و فشل في صيغته الأخيرة بسبب الموقف من حكومة الشاهد نفسها.
إلى أين؟
كل ما تقدم يضع البلاد أمام تحديات كبيرة خاصة مع الحرب الكلامية المتصاعدة بين اتحاد الشغل والحكومة وتصميم الاتحاد في تنفيذ الاضراب العام في الوظيفة العمومية يوم 17 جانفي الجاري، ينضاف لذلك تصميم الجبهة الشعبية اليسارية للمضي قدما في مشروعها لإقصاء النهضة من المشهد من خلال ما بات يعرف بـ"الجهاز السري "المثار من طرف هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي.
ولكن لا شك أنه ورغم كل هذه التحديات فإن تونس بما راكمت من ثقافة ديمقراطية خلال السنوات الماضية وبما أثبته النخبة على علاتها من قدرة على تجاوز خلافاتها بالحوار يضع تونس أمام إمكانية تجاوز هذه الصعوبات خاصة إذا نجحت البلاد في إنجاز الانتخابات القادمة لسنة 2019 في موعدها.