وأقصد بالاستيعاب أن يتفهم الناس بعضهم البعض، وأن يتعلموا كيف يتعايشون مع بعضهم رغم اختلافاتهم، وأن يسعوا لإيجاد قواسم مشتركة تعزز من وحدتهم وتجعلهم يسعون مجتمعين لتحقيق الآمال المشتركة.
أكبر مشكلات البشر علي وجه العموم هي الاستيعاب. فعلى الرغم من أن الناس جميعا يوقنون أن الاختلاف سنة كونية، إلا أنه يصعب عليهم تجاوز الخلاف. حتى في الأشياء التي لا دخل للإنسان فيها، كونه مثلا أبيض أو أسود اللون، تجد في عالمنا المعاصر من ما زال يصنف السود متخلفين وأقل درجة (حتى في الجنس البشري) من البيض. ولا أخفي أن هناك الملايين في أوروبا وأمريكا من لديهم مثل هذه القناعات بشكل أو بآخر.
وإذا انتقلت إلى عالم الأفكار، تجد الليبرالي والعلماني والمحافظ واللاديني والإسلامي والمسيحي واليهودي والهندوسي و... طيف واسع من التنوع يصعب حصره، فضلا عن أن تميز بينهم. وداخل كل قطاع فكري أو ديني هناك المئات، بل الآلاف من المذاهب والنحل والفرق والجماعات.
والغريب أن تجد أكبر الشرور، وهو القتل يصبح أسهل شيء حين تتصارع المذاهب والأفكار. في ظني أنه كلما كان المجتمع متخلفا كلما قل استيعاب أفراده للآخر، وكلما زادت حدة الصراع والخلاف.
يقول المولي سبحانه وتعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم".. وكأن الآية تقول إن الاختلاف بين البشر أصل من أصول التجمع البشري، ليكون هذا الاختلاف محل امتحان وابتلاء والأروع أن تجد الآية الكريمة تستثني "إلا من رحم ربك"، أي أن البشر الحقيقيين الذين يستأهلون رحمة الله هم أولئك الذين يتوافقون مع بعضهم على منهج الله، ويبحثون عن
القيم المشتركة مع سائر الخلق، مصداقا لقول الرسول الكريم، "المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس".
ولقد رأيت أحزابا وجماعات تجمعها أكثر من 90 في المئة من القيم والمفاهيم، لكنها تقتتل على 10 في المئة، ورأينا من الإسلاميين من وقف مع الظالمين ضد إخوانه الإسلاميين، ورأينا داخل الجماعة الواحدة من لا يقبلون رأيا مخالفا، ولا دعوة صادقة للتطوير والتغيير، ويرمون مخالفيهم بكل نقيضة، ويطعنون في الظهور طعنات لا يوجهها عدوهم، ويقولون: من يختلف على ما نحن فيه فليخرج من بيننا، وليؤسس كيانا آخر، ففرقوا ما اجتمعوا عليه، واستباحوا الغيبة والنميمة للقضاء على مخالفيهم.
إن كل التيارات الفكرية التي سعت للسيطرة على عقول أعضائها ومعتنقيها، ووجهتهم إلى قراءة كتب معينة حصريا، والاستماع لآراء علماء ومفكرين بعينهم، قذ أنجبت أجيالا ممسوخة العقل، منزوعة التفكير، غير قابلة للتسامح، فضلا عن استيعاب الآخر.
وإذا انتقلنا من مربع الأفكار والديانات إلى مربع
الأخلاق، وجدت قلة الاستيعاب أكثر وضوحا. فلا يقبل الحليمُ المتسرعَ، ولا يقبل الهادئ من هو سريع الانفعال، ولا يستوعب المسرف البخيل أو المقتصد.. وما إلى ذلك من الأخلاق والطبائع التي يستحيل حصرها.
أما على صعيد العلاقات الاجتماعية، فانعدام الاستيعاب هو الأصل بين الأزواج، حتى زادت معدلات الطلاق إلى أرقام قياسية، والآباء يجدون صعوبة في استيعاب أبنائهم، والكل نادرا ماي ستوعب الكل من الجيران وزملاء العمل و...
لقد كان أروع ما في الإسلام أن استوعب كل هذه الاختلافات، فجمع الأبيض والأسود، والشديد والليّن، والغني والفقير، والجواد والبخيل، والشجاع والجبان. للأسف الشديد، يتذكر الجميع رقة أبي بكر وينسي شدة أباذر، وكليهما من أهل الجنة، كما بشّر الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي كثير من حواراتي مع أولئك الذين يعنفون بعض المشايخ من أصحاب الرأي الحاد أو المتساهل؛ أقول لهم: معكم كل الحق أن تختلفوا معهم: ولكن عليكم كل الواجب أن تستوعبوهم وتحترموهم.
الغريب أن تجد بعضنا يحترم نماذج من غير المسلمين الذين يقفون بعض المواقف الطيبة مع الحق: رغم اختلافه معهم في الدين: بل وربما في الأخلاق، ولا يكن هذا الاحترام والتقدير لأخيه في الإسلام والأخلاق.
آن الأوان أن يستوعب بعضنا بعضا، وأن نتقبل بعضنا على ما نحن فيه، وأن نفكر في القواسم المشتركة والقيم الثابتة التي تجمعنا، وألا نجعل انتماءاتنا لجماعات أو أحزاب أن تفرق صفنا، فتحيد عن هدفنا من تحقيق السعادة والرخاء والأمن والكرامة والحق والعدل في مجتمعاتنا.