منذ أكثر من خمسين عاما، لم يمتلك العالم العربي مشروعا سياسيا حقيقيا. ولعل من أسباب التخلف والتراجع السياسي والمجتمعي؛ افتقاد العرب لمشروع ينظم طاقاتهم ويبلور قواهم ويحشد مواردهم.. مشروع أو هدف يسعون لتحقيقه، وتشترك في إنجازه جميع القوى الحيّة في العالم العربي.
لا فرادى ولا مجتمعين، كان لدى العرب مشروع، فقد ذهب كل نظام سياسي إلى إدارة شؤونه بالطريقة التي تعظّم منافع النخبة المرتبطة به، والتي لا تتجاوز نسبة الواحد في المئة من الشعب، مع تخصيص ما تبقى من موارد الدولة على سياسات إخضاع الشعب وقمعه وترويضه بالإعلام والمناهج التربوية والجيوش وأجهزة المخابرات، وسواها من أدوات الإخضاع.
وكان من الطبيعي في ظل هذه العملية أن يتم تركيز الأنظمة على النخب، لما لها من تأثير على وعي المجتمعات، فعملت الأنظمة على شن حرب شعواء على هذه النخب؛ أخضعت أغلبها وجعلتها مجرد أبواق ومبشرين لسياساتها، ومن تبقى جرى إيداعه في السجون أو هرب للمنافي أو قتلته أجهزة الأنظمة.
وصاغت تلك الأنظمة دساتير وقوانين منحتها سلطة مطلقة، وجعلت الشعوب مكشوفة من دون حماية وتحت رحمتها، وزاد انكشاف الشعوب العربية الحرب التي مارستها الأنظمة على النخب، وكذلك تحكمها بمصادر رزق تلك المجتمعات وبعمليات توزيع الموارد الجائرة، وخاصة تلك المتعلقة بالوظائف والمناصب، التي اشترطت تحوّل الكفاءات إلى مخبرين ومصفقين وبائعي ذممهم، وحتما شركاء في الفساد وواجهات للخراب.
منذ أكثر من خمسين عاما، لم يكن للوجود العربي أي معنى، وباستثناءات بسيطة، في بداية ظهور المقاومة الفلسطينية واتجاهات عبد الناصر الوحدوية، فإن مسار التاريخ العربي الحديث كان مثقلا بالقهر والذل والفساد والانحطاط، وكانت صورة العربي في الخارج صورة الشخص الذليل المهان المهزوم في الداخل والخارج، على يد أنظمة لا علاقة لها بالوطنية ولا بالأوطان، وكل همها تثبيت وترسيخ سلطاتها وتوريثها لسلالاتها. وبناء على هذا الواقع، ذهبت الكثير من القراءات الغربية عن العالم العربي بأنه عالم ميت لا إمكانية للنهوض والتغيير فيه.
عندما أطل
الربيع العربي برأسه، سارعت كتل كبيرة في العالم العربي بالالتحاق به، وخاصة الجيل الجديد من الطبقتين الوسطى والفقيرة، حيث رأت فيه فرصة لتحريك المياه العربية الآسنة، والانطلاق إلى واقع أفضل، والتخلص من عار سنين السكوت والذل. ولأول مرّة تتهيأ فرصة جماعية للشعوب العربية للانخراط في النضال من أجل الكرامة والعدالة والحرية، ولم تبخل الشعوب العربية بجهد ولا بدم للمشاركة في هذا الحدث العظيم، وملاقاة أشواق الحرية التي انتظروها عقودا طويلة.
ولعل الظاهرة الأبرز التي ميزت الربيع العربي هي عدم وجود طلب كبير على السلطة من قبل النخب التي قادت الحراكات، وهذا دليل على أن الربيع كان مشروعا وليس حركة انقلابية هدفها الوصول للسلطة واحتكارها، كما روج أعداء الربيع. كان همّ المنخرطين في فعاليات الربيع العربي، وحتى أولئك الذين ماتوا ولم يدركوا النتائج، فتح ثغرة في جدار الانسداد العربي، عتبة أو بوابة للانطلاق إلى المستقبل. لم يكن أحد يطمح بالمدينة الفاضلة ولا بعالم يمطر المن والسلوى. الجميع كانوا يعلمون حجم الأعطاب التي خلفتها أنظمة الفساد في الواقع العربي، ولكن على قاعدة أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوّة.
بالطبع، لا يعني ذلك أن الربيع العربي لم يكن له نواقص أو سلبيات، وأن الذين شاركوا به كانوا جيوشا من الملائكة. يمكننا أن نعدد تلك الأخطاء من هنا حتى الغد، وأولها وفي أساسها؛ عدم الحسم واستعمال الشدّة مع رموز وممثلي الأنظمة السابقة، وتركهم يسرحون على هواهم، أو الصبر على تلك الأنظمة حتى تسقط من داخلها. وتخرج فئة ترفض العنف الممارس بحق الشعب، كما اعتقد السوريون مثلا، وكذلك عدم إعطاء الأولوية لتطبيق أهداف
الثورة على سواها من الاعتبارات الأخرى، وغيرها من الأخطاء التي فتكت بالربيع العربي، ومنحت الدولة العميقة الفرصة لاستعادة المبادرة وممارسة أشد أنواع الانتقام من المجتمعات والبيئات التي احتضنت الثورة.
ليس هناك أمل بأن يكون لدى الأنظمة العرب مشاريع غير القمع والنهب والتبعية والذل للخارج. من ينظر لأحوال مصر وسوريا، يكتشف على الفور خريطة مشروع الأنظمة في المستقبل. من هنا يمكن القول وبثقة، إن الربيع العربي هو المشروع الشرعي والوحيد الباقي والقادم، فلن يطول الوقت قبل أن تستنزف الأنظمة "العصابات" العربية هجومها على الربيع، من خلال وصفه عبر أبواقها بـ"الخريف"، أو ربيع الظلاميين، وسواها من هذه القوالب التي تنز أقلام كتابها دم المغدورين والشهداء. ليس أمام الشعوب العربية أي أمل وفرص للخلاص إلا عبر الربيع، وإن كان بحاجة لتعديلات وإصلاحات في هيكله ومضمونه.