نشرت صحيفة "إندبندنت" تقريرا لمراسلها ريتشارد هول، بعد زيارة قام بها للرقة، ولموقع أكبر مقبرة جماعية فيها.
ويصف التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، كيف تقوم فرق بالبحث في القبور الجماعية لمعرفة من هو مدفون فيها، فيفتحون القبر ويخرجون الجثمان برقة من الخندق ويرفعون الغطاء، ومع أنهم فعلوا ذلك مئات المرات، إلا أن أجواء حزينة تخيم عندما يكشفون الغطاء.
ويقول هول إن مساعد الطب الشرعي عبد الرؤوف الأحمد، يكسر حاجز الصمت، فيقول: "يمكنك أن تعرف إن كان الميت مقاتلا أم لا من الملابس.. وهذا ليس مقاتلا".
وتفيد الصحيفة بأن عملية الفحص لا تستمر طويلا، فخلال دقيقتين استطاع أحمد أن يحدد أن الميت امرأة، في أواخر العشرينيات من عمرها، وأنها في الغالب أحضرت إلى هنا من المستشفى، وسبب الوفاة غير معروف.
ويشير التقرير إلى أن "استخراج جثة من تحت الأرض يكون في الظروف العادية هو بداية تحقيق وليست نهايته، لكن هنا في حديقة بانوراما أكبر مقبرة جماعية في الرقة، فإن هناك الكثير من الجثامين وقليل من الوقت، ومطلوب من أحمد وزملائه جمع الموتى في الرقة، وكثير منهم لا يزالون تحت أنقاض المباني المدمرة، أو مدفونين في مقابر جماعية، وقد تم اكتشاف تسعة مواقع شبيهة على الأقل، بعد أن استولت القوات التي يقودها الأكراد على المدينة من تنظيم الدولة في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، ويتوقعون أن يجدوا المزيد".
ويقول الكاتب: "بقي الكثير حول هذه القبور غامضا، لكن هناك قصة ترويها حديقة بانوراما، فكل من هو مدفون هنا مات في معركة الرقة الأخيرة، وهي معركة استمرت أربعة أشهر سوت المدينة بالأرض، وبعد عام، يكشف هذا المكان، الذي كان يوما ما مكانا يسوده السلام، أهوال الأيام الأخيرة لحكم تنظيم الدولة".
وتكشف الصحيفة عن أن القبور في حديقة بانوراما حولت تلك الحديقة إلى نصب مروع، فيما تمتد أكوام التراب إلى مسافات بعيدة في خطوط مرتبة تتبع اتجاه الخنادق تحتها، مشيرة إلى أنها تظهر من الأعلى كأنها جزء من رسم معقد لممرات مرتبة تتقاطع مع بعضها.
ويلفت التقرير إلى أن صور الأقمار الصناعية تظهر بأن تنظيم الدولة بدأ بحفر تلك الخنادق الكبيرة في شباط/ فبراير 2017، عندما بدأوا بخسارة الأراضي في ريف الرقة لصالح قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد، ولكن ليس بذلك الحجم.
ويستدرك هول بأنه مع دخول حزيران/ يونيو كانت المدينة محاصرة تماما، وفي الأشهر التي تبعت ذلك قامت قوات التحالف التي تقوده أمريكا بحملة قصف قتلت عشرات المدنيين، لافتا إلى أن مقاتلي تنظيم الدولة استخدموا المدنيين دروعا بشرية، ومات كثير منهم في تبادل اطلاق النار.
وتنقل الصحيفة عن أحمد، قوله في الوقت الذي كان يرقب فيه فريقه وهو يحفر: "كان هؤلاء الناس محاصرين.. لقد منع تنظيم الدولة أي شخص من الخروج من المدينة، وكان التحالف يقصف كل شي".
ويبين التقرير أنه مع تكدس الضحايا، واجتياح القتال المدينة، فإنه لم يكن أمام السكان مكان لدفن موتاهم، واستخدموا أي مساحة في المدينة يمكنهم العثور عليها، وأصبحت حديقة بانوراما مكان الدفن الرئيسي في الرقة للمدنيين والمقاتلين.
ويفيد الكاتب بأن المسؤولين يقدرون عدد المدفونين فيها بحوالي 1500 شخص، مشيرا إلى أن من الجثامين التي تم استخراجها حتى اليوم فإن الغالبية العظمى، حوالي 80%، كانوا مدنيين -وأكثرهم نساء وأطفال- وحوالي 20% كانوا مقاتلين من تنظيم الدولة.
وتقول الصحيفة إنه مع المساء كان فريق أحمد قد استخرج خمسة جثامين من الأرض، كل واحد منها يروي قصة مأساة أخرى من تلك الأشهر الأخيرة، وقال أحمد: "لقد أستخرجنا سابقا ثلاثة رضع، أحدهم يبلغ ستة أشهر، وآخر شهرين، والثالث عامين، هؤلاء أطفال ماتوا في الانفجارات وقصف الطائرات"، وقال إنهم وجدوا بعض الأجنة مدفونة هنا أيضاـ التي يتوقع أن عددا منها كان نتيجة إسقاط بسبب قصف المدينة، وأضاف: "هذه معاملة تعرض لها أهل الرقة ولم يعان منها أي بلد آخر".
وينوه التقرير إلى أنه بجانب الأبرياء دفن المقاتلون الذي جلبوا معهم الكثير من المعاناة للمدينة، ووجد في المقبرة عدد من مقاتلي تنظيم الدولة، بما في ذلك عدد من مقاتلي الشيشان.
ويقول هول إن "الموت والدمار الذي تسبب به القصف في الرقة يتكشف هنا في حديقة بانوراما، ويترك إرثا مريرا، كثير من سكان المدينة كانوا سعداء بالتحرر من تنظيم الدولة، لكن هناك غضبا من الثمن الكبير الذي دفعوه للحصول على تلك الحرية".
وتذكر الصحيفة أن أمريكا، التي قامت بحوالي 90% من الغارات الجوية على المدينة، تدافع عن الطريقة التي أدارت فيها الحملة، فقال الرئيس السابق للتحالف ضد تنظيم الدولة الجنرال ستيفين تاونسند: "كان هناك شعور بضرورة" الاستيلاء على المدينة؛ لأن التنظيم كان يستخدم المدينة ليرسم خططا لمهاجمة أهداف في الغرب، مشيرا إلى أن عدد الضحايا المدنيين زاد بشكل كبير بسبب استخدام تنظيم الدولة للدروع البشرية.
وبحسب التقرير، فإن أمريكا اعترفت بالمسؤولية عن موت حوالي 100 مدني في الرقة، لكن تم التشكيك في تلك الأرقام من المراقبين المستقلين، مشيرا إلى قول مجموعة "‘يروورز"، وهي مجموعة تحقيق مستقلة في المملكة المتحدة، بأن أكثر من 1500 مدني قتلوا في غارات جوية للتحالف، وفي هجمات مدفعية في المعركة الأخيرة للرقة، ما بين حزيران/ يونيو وتشرين الأول/ أكتوبر 2017.
ويورد الكاتب نقلا عن منظمة العفو الدولية، قولها في تقرير صدر الشهر الماضي، بأن الفشل المستمر للتحالف الذي تقوده أمريكا "في أن يعترف، ناهيك عن أن يحقق، بالحجم الصادم للوفيات المدنية والدمار الذي تسبب به للرقة، هو بمثابة صفعة على وجه الناجين الذين يحاولون إعادة بناء حياتهم ومدينتهم".
وتنقل الصحيفة عن أحمد، قوله بأن فرق البحث عن الضحايا وجدت ما بين 4 آلاف إلى 5 آلاف جثمان في أنحاء المدينة، في القبور الجماعية وتحت الأنقاض، معظمهم من ضحايا الغارات الجوية.
ويشير التقرير إلى أن "حديقة بانوراما مساحة واسعة على شكل مثلت، وليست بعيدة عن نهر الفرات في جنوب غربي المدينة، ويستقبل زائر الحديقة نحت كبير لزهرة بالقرب من المدخل، وقبل الحرب كان هناك رسم كبير للرئيس السوري السابق حافظ الأسد يراقب ذلك النحت، وعندما سيطر تنظيم الدولة على المدينة تم طلاء تلك اللوحة باللون الأسود".
ويفيد هول بأن هناك خيمة بيضاء توجد بالقرب من مركز الحديقة، تخدم بصفتها مكتبا للعاملين في فتح القبور، حيث يتذكر كثير منهم زيارة الحديقة في أيام أفضل عندما كانت تمتلئ بالعائلات التي تريد الاستراحة من ضجة المدينة.
وبحسب الصحيفة، فإن معظم هؤلاء العاملين لم يتدربوا للعمل الذي يقومون به، و"حتى أحمد، الذي يعمل مساعد طبيب شرعي، لا يقوم بسوى اختبارات سطحية للجثامين، حيث يسجل الملابس وتقدير للعمر وإن كانت معهم وثائق (وهذا قليل جدا) وأي علامات فارقة، وبعد ذلك تنقل الجثامين للدفن في المقبرة خارج المدينة".
ويذهب التقرير إلى أن "العمل الذي يقومون به محبط، لكنه ضروري، ويمثل حال الرقة، وربما كان التحقيق في المقابر الجماعية فرصة لأهالي الضحايا لبدء تعافي الجرح، أو حتى محاولة للتعرف على المسؤولين، لكن دون التدريب اللازم والإمكانيات فإن ما يقوم به العاملون الآن هو مجرد دفن الماضي".
ويلفت الكاتب إلى أن كبيرة الباحثين في "هيومان رايتس ووتش" بريانكا موتابارثي، شهدت فتح قبور مقبرة جماعية في الرقة في وقت سابق خلال الصيف، وقالت لـ"إندبندنت": "هذه الفرق المحلية تعمل ما بوسعها، لكن هناك قواعد أساسية في علم الطب الشرعي لا يتم اتباعها، ولفعل ذلك هناك حاجة لإمكانيات محددة لفعل ذلك".
وكانت موتابارثي قد شهدت فتح قبور في استاد الرشيد، على بعد ميلين من حديقة بانوراما، فقد حول تنظيم الدولة الاستاد إلى سجن عندما سيطر على المدينة في 2014، واختفى الآلاف في سجون مثل هذه ولم يسمع منهم بعد ذلك.
وتنقل الصحيفة عن موتابارثي، قولها إن فرصة اكتشاف مصيرهم تفقد، وأضافت: "هناك عشرات العائلات في المنطقة فقدت أحبتها، وهذه القبور فرصة لهم أن يعرفوا ماذا حصل لهم، لكن إن لم يتم تسجيل هذه الجثامين بشكل جيد فإنهم يكونون قد خسروا هذه الفرصة.. ودون مساعدة تقنية فإن عملية فتح القبور هذه لن توفر للعائلات الأجوبة التي كانوا ينتظرونها، وقد تتلف أدلة مهمة يمكن الاعتماد عليها في أي جهود عدلية مستقبلية".
وبحسب التقرير، فإن المساعدة هي ما تحتاجه كل هيئة رسمية في الرقة، وقد دعا المجلس المدني للرقة، الذي أنشأته قوات سوريا الديمقراطية لإدارة المدينة بعد هزيمة تنظيم الدولة، مرارا إلى دعم من المجتمع الدولي لإعادة البناء، لكن أمريكا وغيرها ربطوا دعم إعادة البناء بالحصول على تنازلات من حكومة بشار الأسد.
ويورد هول نقلا عن عبدالله عريان، المسؤول في المجلس عن لجنة إعادة الإعمار، التي تشرف على إدارة القبور الجماعية، قوله إن معظم الضحايا الذين يتم استخراجهم من تلك القبور هم عبارة عن هياكل عظمية، وفحصهم يحتاج إلى أجهزة غير متوفرة، وأضاف: "نقوم بكل شيء بأيدينا، فليست لدينا أجهزة خاصة لهذه الحالات، وليست لدينا مختبرات لفحص الحمض النووي ومعظم الجثث ليست معها اي وثائق".
وتنوه الصحيفة إلى أنه في الوقت الذي يستمر فيه العاملون في البحث في حديقة بانوراما فإن عريان يتوقع اكتشافات جديدة، فقد تم اكتشاف أكثر من 200 مقبرة جماعية في العراق، ربما تحتوي على 12 ألف ضحية لتنظيم الدولة، وهناك ما يدعو لتوقع أن يكتشف المزيد في سوريا.
وتختم "إندبندنت" تقريرها بالإشارة إلى قول عريان: "لا أعتقد أن هذه هي آخر مقبرة جماعية".
لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)
الغارديان: ما تأثير إرث تنظيم الدولة على حياة الناس بالعراق؟
ديلي بيست: لماذا سمحت أمريكا بتجويع سكان الركبان؟
أتلانتك: هذه قصة مواطن أمريكي حاول الانضمام لتنظيم الدولة