قبل عامين بثت قناة الـ "بي بي سي" عربي تحقيقا وثائقيا بعنوان "جريمة في إسطنبول" يتناول سلسلة اغتيالات وقعت في تركيا، وكان معظم الضحايا معارضون للرئيس الروسي فلاديمر بوتين وحلفاؤه. تزامن عرض الفيلم مع واقعة اغتيال السفير الروسي في أنقرة في الشهر ذاته وأمام عدسات الكاميرات. وبعد عام واحد تم اغتيال الناشطة السورية عروبة بركات وابنتها الصحفية حلا بركات في إسطنبول، وهو الأمر الذي أوضح كيف أن تركيا بلد مكشوف أمام العديد من جرائم الإغتيالات لأسباب سياسية، وأن أقصى ما يمكن للسلطات فعله هو أن تتهم شخصا قد فر من البلاد أو أن تلقي القبض على الجاني من دون تتبع من أعطى الأوامر.
يبدو أن مثل هذه الحوادث أغرت السلطات السعودية للقيام بجريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي وأعطت انطباعا بأنها ستمر بشكل أو بآخر في كل الأحوال. وهو الإنطباع الذي ربما استبعد أمورا أخرى يبدو أن صانع القرار في تركيا قد أخذها في الحسبان. فإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية تتم على قدم وساق منذ الإنقلاب الفاشل منتصف عام 2016، الأمر الذي انعكس على مستوى عمليات التفجير التي انخفضت بشكل ملحوظ.
تعامل إعلامي مختلف
ومما يدل أننا أمام واقع أمني وسياسي جديد في تركيا مختلف كليا عما كان قبل منتصف 2016، هو أن التعامل الإعلامي والسياسي مع جريمة قتل خاشقجي تم بطريقة غير معهودة من السلطات التركية. فلم تأخذ جريمة سياسية كل هذا الزخم، حتى جريمة قتل السفير الروسي نفسه التي تمت أمام الشاشات.
هناك وجهة نظر تريد أن تختزل التعامل التركي مع الجريمة في البُعد الدولى، على أساس أن أنقرة تريد الإستثمار السياسي دوليا في الحادثة لتصفي حساباتها السياسية مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وحلفه الممتد من أبو ظبي للقاهرة. وهو أمر قد يتحقق تلقائيا، لكن هذه الفرضية تستبعد حقيقة مفادها أن تركيا حساسة تجاه خوض معارك سياسية أو عسكرية من دون غطاء داخلي كافٍ.
على الرغم من كل مشاكل عدد من الصحفيين الأتراك وبعض السياسيين مع الحكومة التركية الحالية، إلا أن الرأي العام التركي رقم صعب في المعادلة السياسية لا يستطيع أحد تجاوزه في القضايا الهامة. على سبيل المثال، كان ولا يزال هجوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المستمر على الإنقلاب الذي وقع في مصر عام 2013 هو خطاب للداخل التركي المكتوي من عدة انقلابات سابقة قبل أن يكون خطابا موجها للعالم أو متعاطفا مع طرف في مصر على حساب طرف آخر، بغض النظر عن موقع الظالم والمظلوم. وقد استخدم أردوغان منطلقات الخطاب ذاته أثناء تصديه للمحاولة الانقلابية عام 2016.
أبعاد داخلية
وعلى نفس النهج، فإن قضية خاشقجي لها أبعاد داخلية هامة مما حدا بالحكومة التركية أن تعطيها كل هذا الاهتمام. وهي أبعاد تتعلق بفكرة بسط السيادة الأمنية وحماية الناس وتقليل معدل الجريمة وإثبات السيطرة على الأجهزة الاستخباراتية. يمكننا أن نتذكر تكرار التصريحات الرسمية وغير الرسمية التركية التي تتحدث عن قوة العلاقات الإستخباراتية مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة ومشاركتها معلومات حول جريمة قتل خاشقجي. إذ أن تبادل هذه المعلومات هو من المعلوم من العلاقات السياسية بين الدول بالضرورة، لكن التأكيد عليها إعلاميا في كل مناسبة من الجانب التركي هو أمر يريد أن يوصل رسالة ما.
كلما اتسع نطاق التحقيقات وتفاعلات الجريمة، فإن تركيا ترسل رسائل متعددة بأن زمن القيام بجريمة سياسية في إسطنبول بشكل آمن وسريع ومضمون النتائج، كما كان يحدث سابقا، قد ولى وأن هناك واقعا جديدا لن يتم التسامح فيه مع أي جريمة أخرى من هذا النوع.
إقرأ أيضا: الرئاسة التركية تعلق على اتهامات فرنسا لأردوغان بشأن خاشقجي
مقتل خاشقجي... الآن حصحص الحق!
تداعيات رفع ترمب الغطاء السياسي عن الرياض
الأسرار المهمة في خطاب أردوغان