رغم الأزمة السياسية التي تعصف بلبنان جراء الخلافات حول تشكيل الحكومة الجديدة وإعادة التصعيد في الخطاب السياسي والإعلامي، لا تزال مؤسسات
المجتمع المدني اللبناني تنشط في إطلاق
المبادرات الجديدة من أجل تعزيز مفهوم المواطنة والعيش المشترك، والسعي لفصل الخطاب الديني عن الخلاف السياسي، ورفض إضفاء البعد المذهبي أو الطائفي على الخلافات السياسية المستجدة.
وفي هذا الإطار، شهد لبنان في الأيام القليلة الماضية مبادرتين مهمتين، الأولى انطلقت من جمعية الفكر والحياة في بلدة المنية (شمال لبنان) من خلال إقامة مؤتمر موسع، تحت عنوان: "مؤتمر سلام الأديان في خدمة الإنسان"، والثاني عبر مشروع متكامل تنفذه مؤسسة أديان، تحت عنوان: "القادة الدينيون والعمل من أجل المواطنة والعيش المشترك".
فتحت شعار "المنية ملتقى الأديان والحضارات والثقافات"، أقامت جمعية الفكر والحياة، وبرعاية مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، ووزارة الثقافة؛ مؤتمراً روحياً بعنوان "الأديان رسالة السلام في خدمة الإنسان"، في منطقة المنية بمركز الدوري الإنمائي.
حضر المؤتمر شخصيات سياسية وحزبية وروحية وناشطة في الشأن العام، وشاركت فيه نخبة من المُحاضرين من المرجعيات الروحية الرسمية الإسلامية والمسيحية والمدنية.
وأجمعت كلمات المتحدِّثين في المؤتمر على أن الأديان مصدرٌ أساسي لنشر ثقافة السلام في المجتمعات، وأن الشرائع السماوية تهدف إلى حفظ الأمن وحماية الإنسان حقوقاً ومكتسبات. وشدد المُؤتَمِرون على أن الرسالات السماوية مهمتها احترام الآخر المختلف وخصوصيته، والتعاون والتفاعل معه من منطلقات إنسانية بعيداً عن التمييز الديني. وتخلل المؤتمر حوار بين المُحاضرين والحاضِرين.
وصدر عن المؤتمر بيان تضمن نقاطا عدة، ومنها: حثُّ المسؤولين على نشر ثقافة الحوار والتسامح وقبول الآخر المختَلِف؛ عبر جميع الوسائل وفي كل المواقع والمؤسسات الدينية والتربوية والاجتماعية والسياسية، والابتعاد عن الصراعات
الطائفية والمذهبية، ونبذ وإدانة التطرف الديني، وفصل الخلاف السياسي عن الجوانب المذهبية والطائفية، وعدم استغلال المواقع الدينية في الصراعات السياسية، والتنبيه بأن الدين للعبادة وليس مادةً لتشريع قتل الآخر المختلف أو وسيلة لنشر الفوضى والتسلُّط والتكفير.
كما دعا المؤتمر المرجعيات الروحية والدينية والهيئات التربوية للقيام بمسؤوليتها في مكافحة كافة أشكال وأنواع التمييز الديني، ومحاربة خطابات الكراهية التي تمهّد للتقاتل والحروب العبثية، وإشراك الشباب والطلاب والمرأة في كل الأنشطة الحوارية من أجل تحمل المسؤولية في نشر الحوار ورفض العنف، ودعوة وسائل الإعلام للابتعاد عن كل ما يؤدي لنشر التطرف والعنف، ورفض الاساءة للمقدسات الدينية، أو القيام بما يؤدي إلى الإضرار بالقيم الدينية والمجتمعية.
أما على صعيد المبادرة التي بدأتها مؤسسة أديان، فهي تتضمن سلسلة ورش تحت عنوان: القادة الدينيون في خدمة المواطنة والعيش المشترك، والورشة الأولى التي أقيمت ما بين 4 و7 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، فقد شارك فيها ثلاثون إعلاميا وناشطا في الشأن العام، وهدفها تدريب الإعلاميين والناشطين حول مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة الحاضنة للتنوع وقضايا الشأن العام. وتحدث في الورشة عدد من الإعلاميين والأكاديميين والباحثين في شؤون المواطنة والفكر الديني.
وستلي هذه الورشة لقاء موسع يضم رجال دين وشخصيات متنوعة، من أجل إعداد سلسلة مبادارات عملية في إطار الإعلام والتنشئة والتربية الدينية والمجتمعات المحلية. والهدف من ذلك تعزيز ثقافة المواطنة والحوار، وقبول التنوع ورفض الخطاب التحريضي.
هذه المبادرات وغيرها من الأنشطة التي يشهدها المجتمع اللبناني من قبل مؤسسات المجتمع المدني، في إطار تعزيز ثقافة الحوار والمواطنة وقبول الآخر، رغم كل أشكال الصراعات السياسية والحزبية التي تعصف بلبنان والمنطقة، تؤكد أن مؤسسات المجتمع المدني في لبنان والمنطقة لا تزال قادرة على العمل في سبيل إيجاد بيئة مجتمعية وتربوية وإعلامية رافضة للتعصب والعنف والتحريض.
والمهم أن تستكمل كل هذه المبادارات بخطوات عملية، وأن تصل إلى كل فئات المجتمع، ولا تبقى ضمن إطار النخب الإعلامية أو الثقافية أو الدينية المحدودة.