"(1)
أدعو الله أن يصلكم ما أريد أن أقوله، أو بعضه، وأدعو الله أكثر أن يصلكم المعنى وأن تصلكم المشاعر التي لم أعرف كيف أعبر عنها، فأنا أمر بحالة مزعجة يسمونها "قفلة الكاتب"، وهي "مشكلة عمل" لمن تكون
الكتابة حرفتهم، لكنها "مصيبة حياة" لمن تكون الكتابة حرفتهم ومتعتهم ووسيلتهم لتحسين صحة العالم المريض الذي ابتلينا به وابتلي بنا.
لقد مررت بهذا الحالة كثيراً وطويلاً من قبل، لكن الكتابة بالنسبة لي لم تعد (كما كانت) طريقة للتعبير أو للتثقيف، لكنها صارت "سلاحاً" لا أملك سواه في معركة مع وحوش ضاريات، لذلك فإن "قفلة الكتابة" في هذه الظروف تذكرني بالشعور الأبيض الغامض الذي شعر به الكاتب جمال خاشقجي وهو يواجه القتلة أعزلاً من أي سلاح.
مسكين الكاتب عندما يتخلى عنه الجميع: الحاكم والشرطي والدبلوماسي والصحيفة والقارئ، ثم أخيراً تتخلى عنه "الكلمة" أيضا، فلا يبقى له إلا البياض.. إلا الفراغ.. إلا السدى.. إلا النظرة العاجزة.. إلا الصرخة المكتومة التي تشق القلب فلا يسمعها مغيث أو شاهد، لكن الإله الرحيم لا يقطع الرجاء إلى آخره، فلا يغلق باباً في الأرض إلا ويفتح أبوابا في السماء، لذلك وصلت صرخة خاشقجي المكتومة، سمعها العالم كله، وكتب أقوى مقالاته من غير كلمة واحدة في البياض. لقد ترك لنا المساحة البيضاء (كما تركت واشنطن بوست مكان مقاله) لنكتب فيها نحن القصة، لنصف اللحظة، لنحدد ما لا يجب أن يستمر، وما يجب أن يكون.
(2)
منذ صدر ذلك العدد من "واشنطن بوست"، وانا منهمك في محاولة قراءة المكتوب في المساحة البيضاء الفارغة، قرأت كلاما كثيراً للدرجة التي أعجزتني عن الكتابة، للدرجة التي يتضاءل فيها الكلام المعاد، فما قيمة الكلام إذا لم يوقف القمع والظلم والفساد؟ وإذا لم يشيّن الغدر والخيانة والخسة؟ وإذا لم يفرض قيم الإنسانية والتطور والالتزام بالمواثيق والمعايير؟
قرأت البياض، ففهمت ما هو أبعد وأخطر وأصدق مما قيل ويقال؛ لأن الحقيقة الوحيدة التي ظهرت في جريمة مقتل خاشقجي، هي بكل أسف حقيقة قديمة قد تهز الناس لبعض الوقت، لكنهم من فرط تكرارها سرعان ما يتجاوزونها للانسياق وراء حادث جديد وحديث جديد، وأقصد جريمة "القتل" بكل ما يرافقها من بشاعة في الطريقة أو التفاصيل، فإذا كانت الحقيقة (الواقعة المؤكدة) أن جمال خاشقجي قد تم قتله، فما هي الجهود التي يمكن بذلها لمعالجة هذه "المشكلة"؟
طبعا تعرفون أن أي جهود لا يمكن أن تحل هذه المشكلة نفسها؛ لأن جهود البشر لم تنجح ولا مرة واحدة من قبل في إعادة قتيل إلى الحياة، وهذا يعني أننا في
جرائم القتل لا نستهدف إصلاح الخطأ وإعادة الحال إلى ما كان عليه، فهذا مطلب مستحيل، فلماذا نتحمس إذن ونبذل الجهود ونبحث عن الحلول؟ وأي مسار نسلك في معالجة جرائم القتل؟ ولصالح من يكون الحل؟
(3)
أسئلة ما بعد القتل، هي بالأساس أسئلة الحياة؛ لأن القتيل خرج من المشهد ولم يعد بالإمكان تعويضه عما سلبوه منه (حياته)، وهذا يعني أن الحديث عن الموت هو دائما حديث من غير المجربين، فمن يتحدث عن الموت لم يجربه بعد، وإنما يريد استثماره في حياته. وبرغم أنني لم أمت بعد، إلا أنني أوافق مقدما على استثمار موتي لصالح الحياة والأحياء، لكنني أشرط ذلك باستثمار يرضيني، فيا ترى هل فكر جمال خاشقجي في استثمار "موته" بطريقة ترضيه؟ بمعنى: هل يرضيه أن يطلب ثأراً أبدياً كما فعل الأجداد في "مقتل كليب"؟ هل يرضيه "الاتزان التركي" و"التوازنات الترامبية" و"التثمين المصري" و"العدم الإماراتي" و"التريث العربي"؟ هل يرضيه معاقبة حفنة من المنفذين؟ هل يرضيه مصالحة خليجية إقليمية توقف صراع الأخوة الأعداء؟ هل يرضيه تطبيق إجراءات الإصلاح والانفتاح على الحريات التي كان يطالب بها في المملكة السعودية؟ هل يرضيه تطهير وإعادة هيكلة جهاز الاستخبارات وتحسين معاملة الرعايا في القنصليات؟ هل يرضيه التواطؤ على دمه حتى لا تتحول الجريمة إلى خنجر في ظهر بلاده؟ هل يرضيه وقف الحرب ضد اليمن كما كان يتمنى في ايامه الأخيرة، لتترحم السعودية على روحه بحقن دماء ألاف المدنيين؟ هل يرضيه اهتمام الملك سلمان وولي العهد بتقديم العزاء لنجله والحرص على نشر الصور في المنابر الرسمية؟ أم ماذا يرضيه لو قال لنا؟
(4)
قبل أن تنطقوا بالإجابة، فكروا معي في شيء آخر، وهو أننا موزعون بين طريقتين ومرحلتين، نفرق بينهما أحياناً ونجمع بينهما بقية الوقت، الأولى هي الانغماس في الجريمة وتفاصيلها والتعامل معها كخبر أو كدراما تشويقية جاذبة للاهتمام، والثانية هي الانسياق في المسار الطبيعي للحياة لمناقشة ما بعد القتل: ماذا سيحدث؟ أو ماذا يجب علينا أن نفعل لنكسب ونستفيد من الحادث؟
كلنا نفكر في ذلك: ترامب والسيسي وأردوغان وتميم وصلاح خاشقجي ومحمد ومريم.. نشطاء فيسبوك، وبناء على هذه "التلبس"، يجب أن لا نردد اتهامات ساذجة وغير حقيقية تصم فلاناً بأنه "يستثمر" في قضية خاشقجي؛ لأن الجميع يستثمر لتحقيق مصلحة. لكن السؤال يبقى: ما هي المصلحة التي يبتغيها كل طرف؟ وما هي وجاهتها؟ وما هي علاقتها بحياة الناس في العموم، أيضا بالاقتراب أكثر من قيم الحرية والعدل والأمان وكرامة الإنسان؟
هذا هو جوهر الصراع وجوهر القضية، فالمصلحة في أمريكا ليست إتمام صفقة تسليح بمليارات الدولارات على جثة الدستور والمبادئ التي دفع فيها العالم ثمناً باهظاً من الدم والبؤس. والمصلحة في تركيا ليست دعم العملة المتضررة أو تقوية النفوذ الإقليمي؛ مقابل تواطؤ أو "تفاهم" لا يغضب المانحين، والمصلحة في قطر ليست إنهاء الحصار وإلغاء المقاطعة على حساب حقوق المعارضة المنبوذة من حكام يحصلون على ترخيص لتقطيع خصومهم بالمناشير، والمصلحة في مصر ليست الاستمرار في الحصول على "الرز" مقابل السقوط الأخلاقي والإنساني، والمصلحة في نفوسنا ليست إشباع غريزة التشفي والانتقام من الأطراف التي نخالفها، فيشمت البعض في خاشقجي متسلحين بمنطق فاسد عن دعمه للمجاهدين في أفغانستان، أو نشأته الإعلامية بالقرب من بيت الحكم السعودي كجزء من النظام. وفي المقابل، يتطرف البعض فيشمتون في شعب المملكة، ويأملون أن تلقى مصير العراق وسوريا وليبيا واليمن؛ جزاء ما قدمت من دعم لتدمير هذه الدول..
المصلحة في رأيي (والاستثمار الصحيح) أن نفعل ذلك كله.. أن نحقق المصالح المادية دون تنازل عن الإنسانية والعدل، أن نحقق المصالحة والوئام دون الوقوع في مكائد العصابات والنكايات المفسدة للشعوب والممزقة للدول، أيضا أن نزيل الأسباب التي أدت لمثل هذه الجريمة البشعة (جريمة سلب حياة إنسان)، فنفسح مكانا للحريات في أوطاننا، ونحترم المواطنين بأن نطور مؤسسات الدولة لخدمتهم بدلا من مطاردتهم وتعطيل حياتهم، وصولا إلى قتلهم (مهما كان نوع القتل ودرجة بشاعته). وفي رأيي أن استثمار قضية خاشقجي تفيد في فتح طريق للحيلولة دون تكرار "جرائم الدولة" في حق مواطنيها، فخاشقجي ليس القتيل الوحيد، وبدلاً من الدفاع عن قتيل واحد، لا بد من وقف قتل الآلاف بدم بارد يوميا.. لا بد من إلغاء أحكام الإعدام في بلادنا، ولنبدأ عاجلاً بوقف تنفيذ ثم إلغاء أحكام الإعدام السياسي في مصر. وإذا لم تكن الجامعة العربية قد قتلت منذ بداية التسعينيات في حادث مشابه لحادث خاشقجي، فإنها يمكن أن تتبنى الدعوة لمؤتمر يجمع وزراء العدل العرب بتفويض من الحكام لوضع تشريع عربي موحد يلغي أحكام الإعدام، وينقي القوانين العربية من النصوص المقيدة للحريات، ويلزم كل المؤسسات بوضع كاميرات المراقبة في المكاتب التي تتعامل مع الجمهور، وتحميلها مسؤولية تعطل أو فقدان المواد المصورة، وتلزمهم بالحفاظ على هذه المواد لمدة لا تقل عن شهر؛ لأن النزاهة والشفافية ضمانة للمسؤول قبل المواطن، فالعالم لم يعد كما كان في زمن القبائل والحدود المغلقة، حيث يحق للحكام التصرف في مواطنيهم بالذبح والسلخ والشوي.
وهذا (بعون الله) موضوع المقال المقبل، رغما عن "قفلة الكتابة".
tamahi@hotmail.com