لقد فتحت قضية خاشقجي - كما يقول القائلون - أبواب جهنم على العائلة الحاكمة في
السعودية، ليصبح ولي العهد محمد بن سلمان في عين العاصفة، وفي مركز زلزال قضية
اغتيال خاشقجي، وليبدو واضحا حجم الارتباك الذي أصاب الإدارة السعودية، التي أظهر التعامل مع قضية خاشقجي مدى سطحيتها.
على جانب آخر، ومنذ اللحظات الأولى لأزمة مقتل خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، كان واضحا أن الأتراك يتقنون فن إدارة الأزمات والتوازنات، ويمتلكون رصيدا من الخبرة التراكمية للتعامل مع مثل هذه الأزمات.
لقد ظهر جليا بما لا يدع مجالا للشك؛ مدى القدرة الفائقة للحكومة التركية بمختلف مستوياتها على إدارة هذه الأزمة وحفظ التوازنات خلالها مع القدرة على الرد أولا بأول على ما يحاك لتركيا، مع الحفاظ على الثوابت القيمية والأخلاقية التي عرفت بها الدولة التركية.
منذ اللحظة الأولى للإعلان عن اختفاء خاشقجي، كان واضحا أن السلطات التركية قد علمت كل شيء عما حدث لخاشقجي وبأدق التفصيلات، ولكن كانت العقلانية والواقعية هي التي تحكم ردة فعل الدولة التركية على أعلى المستويات، والتي استخدمت أسلوب الجرعات في الإعلان عن تفاصيل المعلومات المتوفرة.
على مدار أكثر من أسبوعين، كانت التسريبات الأمنية للإعلام هي التي ترفع من سقف التعاطي الدولي مع قضية خاشقجي، دون أن يتدخل مسؤول تنفيذي أو سياسي من الدولة التركية، وتعاملت الدولة التركية مع القضية كملف أمني جنائي، وتأتي كلمات الرئيس أردوغان واضحة بقوله: "اننا لن نقوم بالإعلان إلا عن قناعاتنا"، ليبدو واضحا أن
تركيا ستعلن عن التحقيقات ونتائجها للجميع وأن التبعات والمآلات ليست تركيا طرفا فيها، وإن كان هناك تأثير، فإن هذا التأثير ليس على العلاقات التركية السعودية فحسب، ولكن التأثير على علاقات السعودية مع العالم كله.
لقد بدا واضحا مدى الاحترافية التركية في التعامل مع مقتل خاشقجي على كافة الأصعدة، محليا وإقليميا ودوليا وعلى مستوى العلاقات الثنائية مع السعودية.
لقد تحول اختفاء خاشقجي من دائرة العلاقة الثنائية بين دولتين إلى دائرة أوسع شملت المجتمع الدولي، ليصبح اختفاء خاشقجي قضية تشغل الرأي العام العالمي للأسبوع الثالث على التوالي، وحتى كتابة هذه السطور.
لقد كانت سياسة الجرعات المتدرجة من المعلومات الصادمة حول مقتل خاشقجي تمثل ضغطا رهيبا ليس على االسلطات السعودية وحدها، والتي التزمت الصمت في البداية والقول خلافا للحقيقة، ولكن أيضا على الرئيس الأمريكي ترامب الذي واجه حشدا للرأي العام الأمريكي لم يواجهه من قبل، منذ توليه الرئاسة لتتغير تصريحات ترامب من يوم لآخر، حتى وصلت إلى سقف عال تجاه السلطات السعودية وولي عهدها؛ عبر تهديده بعواقب وخيمة، وكانت تصريحات ترامب الأخيرة لصحيفة نيويورك تايمز منعطفا نوعيا في العلاقة مع السلطات السعودية وولي العهد محمد بن سلمان.
لقد خرجت المطالبات للسعودية بإجلاء حقيقة مقتل خاشقجي من حيز الدولة التركية المضرورة بسبب تلك الحادثة على أراضيها إلى حيز القوى الدولية الكبرى والمنظمات الدولية، واشتعل الرأي العام الأمريكي وتعالت الأصوات في الكونجرس الأمريكي على مستوى الحزبين الجمهوري والديمقراطي بإدانة ما حدث، ومطالبة الرئيس ترامب بالوقوف على الحقيقة ومحاسبة السعودية ومسؤوليها عن جريمة مقتل خاشقجي.
لقد حركت إدارة تركيا لأزمة اغتيال خاشقجي الرأي العام العالمي خلال فترة زمنية وجيزة؛ صحبتها زيادة متدرجة في جرعات المعلومات عن حقيقة تورط السلطات السعودية في قتل خاشقجي، على أمل الضغط على السلطات السعودية للتعاون بشأن إجلاء الحقيقة، وعلى جانب آخر محاولة للوصول إلى سردية مقبولة؛ ربما تخفف الضغط المتزايد على الدولة السعودية، التي تؤكد الأدلة والمعطيات مسؤولية أعلى المستويات الحاكمة فيها عما حدث لخاشقجي. ويأتي ذلك في إطار إدارة التوازنات في العلاقات وبناء على رؤية واقعية للإدارة التركية حول علاقاتها بالسعودية، والتي توترت منذ ظهور محمد بن سلمان، وكذلك انطلاقا من قراءة للموقف وآثاره على الدولة التركية وصورتها بأن يُستهدف شخص كخاشقجي على أراضيها.
على الجانب الآخر، كان واضحا أن السلطات السعودية ليس لديها الإمكانية أو الخبرة لإدارة الأزمة التي خرجت عن سيطرتها في ظل غياب القدرة على قراءة الواقع والتنبؤ بالمآلات.
لقد اعتمد الدولة التركية في التعامل مع قضية اغتيال خاشقجي على ثلاثة مسارات هي: المسار الاستخباراتي، وهو مسار متقدم والمسار القضائي الذي بدأ يتقدم، وهناك المسار السياسي والذي يبدو واضحا أن السلطات التركية لن تتحرك فيه علانية إلا بعد اكتمال المسار القضائي؛ فالجانب التركي رغم أن لدية كافة التفصيليات عما جري لخاشقجي، إلا أنه حريص على تخريج الأمر قضائيا حتى يواجه العالم بالحقائق الدامغة.
أعتقد أن الإدارة التركية خلال الأيام الماضية، عبر سياسة الجرعات المعلوماتية عن مقتل خاشقجي، حاولت أن ترمي حبلا إلى السلطات السعودية؛ لعلها تنتبه إليه لتساعد نفسها في الخروج من تلك الأزمة التي ورطت نفسها فيها، وتحولت إلى كرة من لهب ثمن إطفائها أصبح مكلفا، وقد يكون أكثر كلفة مما يتخيل كثيرون؛ ما لم يتنبه حكام السعودية.
إن السلطات السعودية لو أحسنت إدارة الأزمة كما أحسنت السلطات التركية إدارتها؛ لأدركت أن محاولات إخلاء المسؤولية وفقا للمنحنى البياني وما تجسد من معلومات ووقائع تجعل من المستحيل النأي بمسؤولية ولي العهد محمد بن سلمان؛ لأننا أمام قضية رأي عام عالمي، وسياق الوقائع قد تجاوز الرغبة في إنقاذ من أمر بقتل
جمال خاشقجي.
لقد أحسنت الإدارة التركية إدارة عاصفة اغتيال خاشقجي، وأجادت إدارة التوازنات بما يحفظ هيبة تركيا وثوابتها وأمنها ومصالحها وعلاقاتها مع الدول الأخرى.
حتى اللحظة، أعتقد أن الأتراك قدموا نموذجا لحسن إدارة الأزمة وحفظ التوازنات لدولة قوية تحكمها قواعد وثوابت وتدار بطريقة مؤسساتية.