ينتابني حزن عميق نحو الزملاء السابقين الذين يتحملون مسؤولية السياسات الأميركية إزاء المأساة السورية الراهنة. وما أسمعه منهم هو تعبير صريح عن استحالة تحقيق الاستراتيجيات والغايات الأميركية في هذا الملف الشائك للغاية. وإنني على يقين من أنهم يدركون هذا الأمر بالفعل، غير أن المسرح السياسي العالمي يتطلب منهم الإفصاح والحديث. طالما فضلت أن أبلغ الناس بما لديّ من أخبار سيئة وكنت أرغب دوماً في الاستماع إلى الحقيقة الصارخة الموجعة، ويقولون في المثل العربي الدارج: «الصراحة راحة». ولا أعتقد الآن بوجود «الصراحة» أو ما توحي به من «راحة» ضمن السياسات الأميركية في سوريا.
على سبيل المثال، صرح مسؤولون أميركيون كبار مؤخراً - مثل وزير الخارجية مايكل بومبيو، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، والمبعوث الأميركي الخاص لسوريا السفير جيمس جيفري - بأن عملية الأمم المتحدة الجارية بشأن جلب الأطراف السورية المعنية للتفاوض بشأن التعديلات الدستورية هناك ومن ثم إجراء الانتخابات العامة في البلاد، من شأنها أن تسفر عن «حل» الأزمة السورية. لكن، ما هي المشكلة القائمة في الدستور السوري على وجه التحديد؟ تنص المادة رقم 33 من الدستور الوطني السوري على أن الدولة تضمن الحريات، والكرامة، والأمن لكل المواطنين. وتنص المادة رقم 42 من الدستور على أنه لكل مواطن الحق في التعبير عن رأيه بحرية. في حين تنص المادة رقم 44 من الدستور على أن للمواطنين الحق في التجمع والتظاهر بالوسائل السلمية. وتحظر المادة رقم 53 من نفس الدستور استخدام كل وسائل وأساليب التعذيب. أما المادة الثامنة، فتنص على أن النظام السياسي في البلاد يستند إلى الانتخابات الديمقراطية. وبناء عليه، نعاود طرح نفس السؤال الفائت: ما هي المشكلة القائمة في الدستور السوري على وجه التحديد؟
قرر المسؤولون الأميركيون، الذين يعتقدون بسهولة سحب وتطبيق تجربتهم الذاتية التاريخية على بقية بلدان العالم رغم الاختلافات الثقافية والتاريخية المتعددة، أن يُمنح رئيس الوزراء السوري المزيد من السلطات والصلاحيات، في حين تُقلص سلطات رئيس الجمهورية وصلاحياته، وأنه ينبغي ألا يستند النظام السياسي السوري إلى مركزية الحكم والقيادة. ويمكنهم ممارسة الضغوط لفرض مواد جديدة على الدستور السوري تنبثق من رؤيتهم الخاصة للأوضاع هناك.
ينبغي على بعض الساسة الأميركيين الذين يديرون دفة السياسة الأميركية إزاء سوريا أن يتحلوا بقدر من التواضع: لقد مارسوا الضغوط الشديدة لأجل أن يتولى نوري المالكي رئاسة وزراء العراق في عام 2010 و2011. وأثبت التاريخ أن هذا كان من الأخطاء السياسية الفادحة التي أفضت إلى بروز خطر «داعش» في كل من العراق وسوريا لاحقاً. وينبغي عليهم إدراك حقيقة بسيطة مفادها أن «حزب البعث السوري» لا يزال على رأس الحكم في البلاد، وهو يرفض «لا مركزية» السلطة والقيادة رفضاً باتاً. وفي هذه الحالة، ليست لدى سوريا خبرات كافية في لا مركزية الحكم بالأساس. وتظهر المشاكل التي عانى منها العراق في محافظات مثل البصرة مدى صعوبة تطبيق أساليب الحكم اللامركزية.
والأهم مما سبق، وبصرف النظر تماماً عما يتعهد به الدستور الوطني السوري، فإن أجهزة الأمن السورية لا تحترم القوانين المعمول بها في البلاد. فهل نسي المسؤولون الأميركيون آلاف الصور للمواطنين السوريين الذين قتلوا تحت وطأة التعذيب من الحكومة السورية الحالية وأجهزتها الأمنية على الرغم من المادة رقم 53 في الدستور السوري آنفة الذكر؟ إن الدرس المستفاد من ذلك بسيط للغاية: لا توجد سيادة للقانون داخل سوريا والدستور منبت الصلة تماماً بواقع الأحداث التي تمر بها البلاد، إنه ليس إلا حبراً على ورق.
بعض من زملائي الأميركيين السابقين كانوا يعملون في العراق قبل 15 عاماً في أعقاب الغزو الأميركي في عهد جورج دبليو بوش الذي أطاح بنظام حكم صدام حسين هناك. ويتذكرون أن العراقيين صاغوا دستوراً جديداً للبلاد في عام 2005، ثم أجروا انتخابات عامة تفتقر إلى المثالية لكنها كانت ديمقراطية إلى حد ما. ويقول المسؤولون الأميركيون إن الانتخابات السورية المقبلة يمكن أن تتم تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة، تماماً على غرار الانتخابات العراقية السابقة في عام 2005.
بيد أن سوريا في عام 2019 و2020 لن تكون أبداً كمثل العراق في عام 2005، نظراً لأن الجيش الأميركي قضى على الأجهزة الأمنية الموالية لنظام صدام حسين قبل إجراء الانتخابات، لكن الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة بشار الأسد (وأعني الاستخبارات) لا تزال حاضرة وفعالة ونشطة للغاية في الواقع السوري الراهن. وليس من قبيل المصادفة أن يفوز بشار الأسد بنسبة 97 في المائة من إجمالي الأصوات في انتخابات عام 2000، ثم بنسبة 98 في المائة في انتخابات عام 2007، ومرة أخرى بنسبة 89 في المائة في انتخابات عام 2014. فهل يعتقد المسؤولون الأميركيون حقاً أن الاستخبارات السورية ستتلقى الأوامر بكل بساطة من بعض موظفي الأمم المتحدة؟ وعندما ترفض أجهزة الاستخبارات السورية تنفيذ أوامر الفرق التابعة للأمم المتحدة، هل من أحد يعتقد أن موسكو لن تستخدم حق النقض (الفيتو) مجدداً بعد أن استخدمته قبل ذلك 12 مرة لحماية حكومة بشار الأسد في المنظمة الدولية؟
فوجئت كثيراً بتصريحات السفير جيمس جيفري. اقترح أنه على غرار انسحاب الجيش الأميركي من فيتنام، يمكن لإيران سحب قواتها المنتشرة في سوريا. غير أن الجيش الأميركي أخفق في فيتنام، ولن يقاتل حلفاؤنا الفيتناميون الجنوبيون إلى جانب أحد بعد الآن. وينبغي على واشنطن إدراك أن قوات بشار الأسد، المدعومة من الحلفاء في روسيا وإيران، ستواصل القتال لإحراز تقدم في ميادين القتال. إنها حقيقة واضحة للجميع.
من الصعب أن نفهم السبب الحقيقي وراء استمرار إصدار التصريحات الغريبة بشأن سوريا من واشنطن. ولديّ بشأن ذلك تفسيران اثنان محتملان؛ الأول، أن الأميركيين كرروا نفس الفكرة السخيفة بشأن الدساتير والانتخابات في كثير من الأحيان لدرجة أنهم بدأوا في تصديق أنفسهم والدعاية الخاصة الصادرة عنهم. ولقد رأيت ذلك بعيني حال عملي في العراق بين عامي 2003 و2010. ويتناسى المسؤولون الأميركيون أن هناك فارقاً كبيراً ومعتبراً بين الأمل الموهوم والتحليل العقلاني.
والاحتمال الآخر يقول إن المسؤولين الأميركيين يدركون أن الدستور والانتخابات ستمنح الجانب الأميركي المبرر المطلوب لمغادرة سوريا مع المحافظة على قدر «ما» من حفظ ماء الوجه. وربما يكون دستور «الحبر على ورق» مفيداً بدرجة كافية لواشنطن التي تعلن أنها لن تخوض حرباً ضد قوات إيران في سوريا. وهذا من قبيل التحليل الصائب وليس الوهم المأمول.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية