11:43:02 PMثمة حالة من النشوة والغبطة والسرور تجتاح النظام السوري ومشايعيه، بعد التقدم الذي أحرزته قوات النظام السوري المسندة من روسيا وإيران في أكثر من جبهة. وقد باتت صور بشار
الأسد تملأ كافة الفضاءات والساحات العامة والأسواق وزوايا الشوارع في العاصمة، فضلا عن الطرقات والأوتسترادات المؤدية إليها، وتتفاخر الحكومة علناً بانتصاراتها التي أسفرت عن تأمين دمشق بالكامل وضمان بقاء الأسد في كرسي السلطة. وحسب مراسل وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية من دمشق: لا نقص في الملصقات واللوحات الإعلانية التي تعبر عن رسالة النصر، وكتب على ملصق عليه صورة الأسد مبتسماً ببزة زرقاء وربطة عنق في شارع بدمشق "سيد الانتصارات"، وتبدأ الملصقات بالظهور فور الدخول إلى
سوريا من لبنان، وكتب عليها: "أهلاً بكم في سوريا المنتصرة"، وكتب تحت ملصق في دمشق: "لقد انتصر الأسد"، وكتب على ملصق آخر عُلق في ساحة الأمويين الشهيرة إلى جانب تمثال للسيف الدمشقي: "قائد النصر".
مسألة انتصار الأسد ليست يقينية ولا مستدامة، كما يؤكد الخبراء. فحسب جنيفر كافاريلا، مديرة تخطيط الاستخبارات في معهد دراسة الحرب، في مقالتها في فورين أفيرز في تموز/ يوليو الماضي، لم تنتهِ الحرب الأهلية في سوريا بعد، ولم يقيّض النصر فيها للرئيس السوري بشار الأسد. فالحرب في سوريا دخلت مرحلة جديدة بالغة الخطورة، فانتصارات النظام غيّرت مسار الحرب، وأضعفت المعارضة المعتدلة، وأوحت بأن الحرب شارفت على الانتهاء. لكن رغم أن تقدّم النظام لا يستهان به على الخرائط، لم تطوَ الحرب بعد. فالرئيس السوري أضعف مما يبدو، وحكمه يعتمد على دعم رعاته الخارجيين، مثل إيران وروسيا، وإنهاك الدول التي كانت تعارضه. وأرسى قراره بتدويل الحرب أسس حروب مقبلة، ويساهم توسّله بالمجازر الكبيرة في تأجيج تمرد جهادي دولي في سوريا.
في هذا السياق، تشكل ظاهرة انتشار صور الزعيم المنتصر رغبة في خلق حالة من الاستقرار الصوري وإظهارا لقوة سلطة لا تعبر عن واقع الأمر. فتعميم الصور ظاهرة شائعة في كافة الأنظمة السلطوية، وهي أكثر شيوعا في الأنظمة الشمولية، وفي الحالة السورية زمن الأسد الأب والابن ظاهرة مضاعفة في حقل تثبيت السلطة على الصعيد الرمزي والمادي. وكانت ليزا وادين قد كشفت بعض مظاهر المجال السلطوي السوري لظاهرة تقديس الحاكم، كآليات لفرض العزلة والتفتيت مقابل المجتمع والتضامن، والمبالغة والنفاق، من خلال رسالتها للدكتوراة بعنوان "السيطرة الغامضة: السياسة والخطاب والرموز في سوريا المعاصرة". سيواجه نظام الأسد العديد من التحديات الإضافية التي جرى تحديدها في التقارير الأكاديمية حول الحروب الأهلية، وبحسب مايكل آيزنشتات، في مقالة في "أمريكان إنترست"، بعنوان "هل "انتصر" نظام الأسد في الحرب الأهلية في سوريا؟"، من المرجح أن تزداد معاناة البلدان، التي تحملت حربا أهلية، من الانتكاس.
إن الحروب الأهلية التي تنتهي بانتصار عسكري واضح من جانب واحد هي أقل احتمالاً بأن تؤدي إلى تجدد الصراع؛ من التسويات التي تترك القدرات العسكرية الكبيرة سليمة. وليس من الواضح ما إذا كان نظام الأسد قادراً على تحقيق انتصار مطلق، فقد أظهرت التجربة أن إرساء الاستقرار في دولة هشة هو أكثر صعوبة بكثير إذا كانت الدول المجاورة تعمل على إحباط هذه الجهود. وخير دليل على ذلك هو عدم قدرة الأمريكيين على تحقيق الاستقرار في أفغانستان منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، نتيجة الدعم والملاذ الآمن الذي توفره باكستان لحركة "طالبان" الأفغانية، والصعوبة التي واجهها الجيش الأمريكي في إرساء الاستقرار في العراق بعد عام 2003 في وجه الجهود السورية والإيرانية المعاكسة.
طالما عملت القوات الموالية للنظام واضعةً نصب عينيها هدفاً مشتركاً أكبر. فقد استفادت من العصبية القوية (أي التكافل ضمن الجماعة) في المجتمع العلوي وحلفائه (بمن فيهم الشيعة والمسيحيون وعدد ضئيل من داعمي النظام السنّة)، ومن درجة تواؤم مصالح إيران و"حزب الله" وروسيا في سوريا. وحسب آيزنشتات، خلّفت الحرب الأهلية السورية حتى الآن مجموعة من التداعيات المزعزعة للاستقرار في المنطقة وخارجها، وقد تؤدي إلى اندلاع المزيد من الصراعات. وفي الواقع، على الرغم من أن الحرب الأهلية السورية لم تنتهِ بعد، إلّا أنّ "الحروب ما بعد الحرب" قد بدأت بالفعل، حيث يحارب الأتراك أكراد سوريا، وتتصادم الولايات المتحدة بين الحين والآخر مع القوات الموالية للنظام والقوات السورية، وانخرطت إسرائيل في صراع تتصاعد حدته مع إيران، ولو أنه لا يزال هامشياً. ومن المرجح أن يتسع نطاق التصادمات بين الأتراك والأكراد السوريين، وتزداد حدته إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها البالغ عددها 2000 جندي من شمالي شرقي سوريا. ومن شأن عودة القوات الموالية للنظام إلى المناطق ذات الأغلبية السنّية، لا سيما بالتزامن مع سحب القوات الأمريكية من سوريا، أن تحفز عودة تنظيم "الدولة الإسلامية".
تجسد الحالة السورية حالة فريدة من "الوضعية الكولونيالية"، فإذا كانت النظرية ما بعد الكولونيالية تتمحور حول تأثير الاستعمار الجديد المعاصر على البنية الاجتماعيّة والاقتصادية والثقافية والسياسية بعد تخليه عن الاحتلال الاستيطاني المكاني المباشر، من خلال فرضية تقوم على أن البرادايم الكولونيالي يواصل فعله كعامل مركزيّ في بلورة وتصميم الوعي الحديث، حتى بعد انهيار الدول الاستعمارية الكلاسيكية، الأمر الذي تولت "مدرسة دراسات التابع" كشف وبلورة آلياته وممارساته. وتمثل سوريا نموذجا لتحقق وضعية مزدوجة من الاستعمار الخارجي والداخلي. فالاستعمار الداخلي مصطلح استخدم لأول مرة في كتابات مفكري أمريكا اللاتينية لوصف العلاقة بين النخب الحاكمة والشعوب التي تحكمها، حسب لؤي صافي، حيث توصف العلاقة الأساسية بأنها استعمارية نظراً إلى طبيعتها الاستغلالية التي لا تختلف عن العلاقة بين الدول الاستعمارية والشعوب المستعمَرة. ولعل المشهد السوري يمثل أقبح أشكال الاستعمار الداخلي على الإطلاق، ليس فقط لأن نظام الأسد أثبت أنه من أكثر الأنظمة الاستعمارية دموية وشراسة، بل لاستعداده للتضحية بالسيادة والكرامة والوطن والشرف، ورهن مستقبل البلاد والتحالف مع الطامعين وإرضاء الأعداء لتكريس حكم الفرد.
تعكس تصريحات قادة النظام السوري الأكثر صلابة ووضوحا حالة النصر المغشوش، وتصورات وضعية الاستعمار الداخلية والوضعية الكولونيالية الجديد. ففي لقاء حضره 33 ضابطا وترأسه جميل الحسن، مدير المخابرات الجوية، بدلا من علي مملوك، مدير الأمن القومي، وذلك في 27 تموز/ يوليو 2018، كشف رؤية للمستقبل وطريقة تنفيذها بناء على مطالب القيادة العليا للبلد، حيث بدأ الحسن خطابه بالحديث عن الانتصارات، وأن المراحل السابقة ركزت على استعادة المناطق الأكثر خطورة الواقعة خارج سيطرة الأسد وتحت سيطرة تركيا التي تعتبر من أهم أعداء النظام منذ اندلاع
الثورة السورية. وتتضمن الخطة المستقبلية عددا من المراحل التي تم بناؤها على أساس الأولويات التي وضعتها القيادة المركزية، وتركز على محو أي شيء يعرقل تطبيقها ويؤثر عليه في المستقبل، إذ سيتم التعامل مع أي شخص يعتبر عائقا للخطة المستقبلية على أنه "إرهابي"، سواء كانت جريمته بالقول أو العمل، وحتى الذين ظلوا صامتين فستتم محاكمتهم في السر والعلن. وبحسب مدير الاستخبارات الجوية، فإن هناك ثلاثة ملايين سوري مطلوبين للعدالة، وقال إن "سوريا بـ10 ملايين من السكان يمكن الثقة بهم ومطيعين للقيادة، أفضل من سوريا بـ30 مليون مخرب". ورأى أن وضع اللاجئين في دول الجوار لا يختلف عن وضع المطلوبين لأجهزة المخابرات، وأضاف إن التعامل مع الذين سيعودون مثل التعامل مع الأغنام، وستتم تصفية الشاة الفاسدة، وسيتم توجيه تهم
الإرهاب لمن تلاحقهم الدولة.
تلخص مسارات الثورة السورية ديناميات سلوك نظام ما بعد كولونيالي شمولي تابع؛ خلق "دولة قومية" من جسم هجين سلمته فرنسا للسوريين بعد الاستقلال، والذي كان بغالب هذه الفترة، منذ سايكس بيكو وحتى مطلع السبعينيات، "دولة شمولية"، يجسدها حكم الحزب الواحد الذي يعبر عن مصالح طبقات اجتماعية معينة ويحكم باسمها أو بالنيابة عنها، إلى كونه حكماً "سلطوياً" فردياً، تطور ليصبح "عائلياً أوليغاركياً"، تحول بموجبه الانتماء والولاء من الدولة والوطن والحزب إلى الفرد والعائلة والطائفة وشبكة المصالح المرتبطة بها، حسب حنا بطاطو، وقد تحولت بحكم آل الأسد إلى "دولة متوحشة" (حسب ميشيل سورا في كتابه "سوريا: الدولة المتوحشة")، كدولة ما قبل سياسية تحكم بها عصبية ابن خلدون بالانتماءات الطبيعية العائلية والطائفية والقبلية والمناطقية بدل المؤسسات القائمة على المواطنة، عبر تحويل النزاعات السياسية، أدوات وأهدافاً، إلى صراعات طائفية دموية بالغالب، أجاد الأسد الأب استخدامها واللعب بها، وخلق استقرارا واستقلالا متخيلين، بتثبيت حكمه داخلياً، واللعب على التناقضات الجيوسياسية خارجاً، لتنفجر جميعاً في النهاية.
لم يغادر بشار الأسد وعصبته نمط ذهنية الغطرسة الأبوية في التعامل مع الحركة الاحتجاجية، ثم الثورة. وكان بإمكانه الاستجابة للمطالب المتواضعة للمحتجين في البداية، لكنه عمل على تثبيت الحكم والسيطرة وإخضاع الثورة، عبر تكتيكات مركبة ومتدرجة، من خلال التلاعب في المعجم الدلالي لحدث الثورة وتحويله إلى أزمة داخلية وحرب أهلية ومشكلة إنسانية. وجلب كافة القوى الاستعمارية التقليدية والجديدة، وحوّل سوريا إلى أكبر محطة لاستقطاب الجهاديين. وبعد سبع سنوات عجاف أصبحت سوريا مستعمر خارجيا من دول عديدة ومنظمات من غير الدول متعددة، وداخليا يعمل النظام على تفعيل نمط من الاستعمار الداخلي، بذريعة "حرب الإرهاب" والتصدي للمؤامرة "الإمبريالية" الكونية. وفي إطار حديث السيادة الغرائبي، جرت عمليات القتل بكافة الوسائل والأدوات المتاحة دون رادع، من البلطجة فالصواريخ والطائرات والبراميل المتفجرة، إلى السلاح الكيماوي، وتفشت تكتيكات التشريد والنهب والتعفيش، وتنامت المعتقلات والمسالخ البشرية، وتعاظمت ديناميات اللجوء والنزوح، وتفاقمت عمليات التقسيم الجغرافي والديمغرافي على أسس إثنية ومذهبية طائفية، وازدهر مجتمع الأحقاد. وبلغت تكتيكات الإذلال حدها الأقصى بالاغتصابات الممنهجة، وباجبار المعارضة وسوقها لقتال بعضها البعض من رفاق السلاح.
بفضل الأسد باتت سوريا في قبضة بوتين وخامنئي. فبقدر ما يظهر الدِرع الروسي قوياً لحماية الأسد، بقدر ما يعطي إشارات كثيرة أنه أكبر بكثير من مقاس الرئيس السوري، حسب إسماعيل عزام. فالاستراتيجية الروسية في سوريا ترغب بحماية مصالح أكبر من مجرّد التوقف عند حاكم لا يجد رؤساء دول أخرى غضاضة من وصفه بالمجرم. وتحاول موسكو قطف ثمار تحرّكها العسكري في سوريا، خاصة وأنها أنفقت الكثير من المال خلال الحرب، في ظرفية صعبة يجتازها الاقتصاد الروسي المنهك جرّاء أزمة مالية تعود لأسباب متعددة كالعقوبات الدولية. يُدرك الأسد أن الحماية التي تلقاها من روسيا وكذا من إيران؛ ليست دون ثمن مالي، لذلك فقد دعاهما إلى أن يكونا أكبر المساهمين في إعادة إعمار سوريا. ويشير تقرير لصحيفة التايم البريطانية بعنوان "الأسد يدعو الدول الصديقة إلى إعادة بناء سوريا"؛ إلى أن روسيا حصلت عام 2017 على عدة عقود في النفط والبناء، كما وقعت مع نظام الأسد معاهدة للتجارة الحرة. كما وقعت سوريا وإيران عقداً لإدارة شبكة للهواتف النقالة، واشترت شركات إيرانية مساحة في مناطق يسيطر عليها الأسد.
في هذا السياق، فإن مسألة انتصار الأسد مشكوك فيها، فالتقديرات الواردة في تقرير للمركز السوري لأبحاث السياسات عام 2015، تعطي لمحة عن مدى كارثية الأوضاع في البلد: أكثر من 80 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، في 70 في المئة تحت الفقر الشديد، و58 في المئة يعانون من البطالة، فيما معدل أمد الحياة تراجع بـ20 عاما، ونصف الأطفال توقفوا عن الدراسة، إلى جانب كارثة في المجال الصحي سمحت بانتشار عدة أوبئة. وتبين تقديرات أخرى أن حوالي نصف مليون سوري قُتلوا منذ بدء الحرب، وأكثر من ذلك بكثير في صفوف الجرحى ومعطوبي الحرب، فضلاً عن نزوح حوالي خمسة ملايين سوري، وفق أرقام الأمم المتحدة، الكثير منهم شباب متعلم، زيادة على مئات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسراً.
ويشير مقال في نيويورك تايمز، تحت عنوان "الأسد فاز في سوريا.. لكن سوريا موجودة بمشقة"، كتبه دافيك ليش وجيمس جيلفين، إلى هذه التقديرات وأخرى، كوقوع خسائر اقتصادية بالبلاد بحوالي 275 مليار دولار، حتى يخلص إلى أن إعادة إعمار البلاد ستكون باهظة بشكل كبير، مشيراً إلى أن صندوق النقد الدولي يتوقع أن تحتاج البنى التحتية لوحدها لتكلفة تقترب من 200 مليار دولار. وفي الوقت الذي تعاني فيه روسيا وإيران من العقوبات الدولية، لا يظهر أنهما قادرتان، حسب المقال، من تغطية كل هذا العجز، ممّا يجعل سوريا قريبة مستقبلاً من النموذج الصومالي، أي انهيار تام للدولة رغم استمرار النظام.
ليس فقط الجانب الاقتصادي هو ما يؤرق الأسد، حسب عزام، فهناك كذلك الجانب السياسي. فإذا كان سماحه لإيران بالتمدد العسكري في سوريا بسبب فقدانه عدداً كبيراً من الجنود بين قتلى ومنشقين، فإنه مكنها كذلك من طموح أن تصير سوريا تابعة بالكامل لها، وهو وضع لم يحدث سابقا حتى مع العلاقات التي جمعت والده حافظ الأسد بالنظام الإيراني. لكن ليست إيران وحدها من تتدخل بسوريا، فهناك كذلك روسيا والولايات المتحدة وتركيا، وحتى إسرائيل التي تحلّق طائراتها العسكرية في سماء البلد من حين لآخر، كل هذا جعل دير شببيغل تعلّق: "يظهر الأسد أحياناً كمجرد دمية لمن هبّ ودب!".
لا يقتصر التدخل الخارجي في سوريا على روسيا وإيران، فقد أصبحت سوريا مرتعا لكل من هب ودب، حسب سوزان كويلبل؛ التي كتبت مقالا في مجلة "دير شبيغل" الألمانية بعنوان "انتصار الأسد ما الذي سيأتي بعد الحرب في سوريا". فكما أن الأمريكيين أصبحوا موجودين الآن رسميا في البلد بتشكيلات أكبر للقوات في الشمال، بوجود مؤكد لنحو ألفي جندي، كما أن الروس والإيرانيين وميليشيا حزب الله ما يزالون جميعاً في البلد، ويقوم الإسرائيليون بقصف مواقع حزب الله المشتبه بها في دمشق.. إذن، ما الذي يجب أن نفهمه من الزعم بأن الأسد كسب الحرب عسكريا، بينما القتال ما يزال متواصلا؟ ما هو الذي على المحك بالضبط هنا؟ ومن هم اللاعبون؟ وما هي مصالحهم وغاياتهم؟
اليوم، أصبحت سوريا التي يريد نائب وزير الخارجية أن يعيد بناءها؛ بلدا مختلفا تماما عما كانته قبل الحرب. فبعد أن توزعت بين مؤيدي الأسد وكارهيه، أصبحت سوريا دولة من الجزر العاملة الصغيرة فقط، في بحر من الدمار والتحلل. وقد تحول قادة المليشيات المحلية إلى أمراء حرب انتهى بهم المطاف إلى نهب منازل مواطنيهم أنفسهم، بعد أن استولوا على الأحياء، وباعوا الغنائم في أسواق البضائع المستعملة واعتبروا العوائد رواتبهم. والآن يسوِّق أمراء الحرب الجدد أنفسهم كمحرري البلد، ومن غير المرجح أن يتخلوا عن سلطتهم المكتشفة حديثا.
ثمن انتصار الأسد المدخول على شعبه "المتآمر مع القوى الإمبريالية والرجعية" حسب السردية الأثيرة للنظام السوري "المقاوم والممانع" كان باهظا، ورواية المقاومة والممانعة أصبحت مدعاة للسخرية والضحك، فقواته لا تجرؤ على الاقتراب من القواعد الأمريكية، وتقف عاجزة عن الرد على هجمات المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، وتكتفي بالوعيد والتهديد لتركيا، وتقتصر بطولاته على الشعب السوري "العربي السني". وقد بلغ عدد ضحاياه، حسب المرصد السوري لحقوق الانسان في تقريره في آذار/ مارس 2018، نحو 511 ألف قتيل. وقال مدير المرصد، رامي عبد الرحمن إن "نحو 85 في المئة من الشهداء المدنيين قضوا على يد قوات نظام بشار الأسد وحلفائه، من الروس والإيرانيين وحزب الله والمليشيات المحلية والإقليمية".
زادت حصيلة القتلى في الحرب الأهلية السورية من أول مجموعة من المتظاهرين قُتلوا برصاص قوات النظام إلى مئات الآلاف من القتلى. لكن مع استمرار الحرب، وتنامي انتشارها وتعقدها، توقف بشكل أساسي العديد من جماعات المراقبة الدولية عن إحصاء القتلى، بحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية. حتى الأمم المتحدة، التي كانت تصدر تقارير دورية عن حصيلة القتلى أثناء السنوات الخمس الأولى من الحرب، نشرت آخر تقديراتها في عام 2016 (اعتمدت جزئياً على بيانات تعود إلى عام 2014)، وقالت إنه يستحيل فعلياً التحقق من عدد من قُتلوا. آنذاك، قال مسؤول في الأمم المتحدة إن 400 ألف شخص لقوا حتفهم في الحرب السورية.
ويبدو أن الجميع قد توقف عن إحصاء القتلى، فقد وثقت هيومن رايتس ووتش في تقريرها حول سوريا 2017 أنه بلغ عدد القتلى جراء الصراع أكثر من 400 ألف شخص منذ عام 2011، وفقا لـ"البنك الدولي"، إضافة إلى خمسة ملايين طالب لجوء، وأكثر من ستة ملايين نازح، وفقا لوكالات أُممية. بحلول حزيران/ يونيو 2017، أشارت تقديرات "الأمم المتحدة" إلى وجود 540 ألف شخص ما زالوا يعيشون في المناطق المحاصرة. وحسب هيومن رايتس ووتش، شنت الحكومة السورية هجمات متعددة بالأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في مناطق سيطرة المعارضة. كما شنت، بدعم من روسيا وإيران، هجمات متعمدة وعشوائية ضد المدنيين والبنية التحتية المدنية، ومنعت المساعدات الإنسانية، واستخدمت التجويع كتكتيك حرب، وأجبرت السوريين على النزوح القسري في مخالفة للقانون الدولي. تستمر ممارسات الحكومة السورية في التعذيب وسوء المعاملة أثناء الاعتقال والإخفاء القسري. وواصلت قوات الحكومة السورية استخدام الأسلحة الكيمائية بشكل متكرر.
لا يزال الاحتجاز التعسفي وسوء المعاملة والتعذيب والاختفاء القسري متفشٍ في سوريا. في عام 2017، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أكثر من 4,252 حالة اعتقال تعسفي، معظمها على يد القوات الحكومية، ولا يزال أكثر من 80 ألف شخص حتى آب/ أغسطس 2017 مختفين، وفقا للشبكة السورية لحقوق الإنسان. وكشفت الشبكة أن عدد المعتقلين في سوريا تخطى حاجز 220 ألف معتقل. وبحسب آخر تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن غالبية المعتقلين في سجون نظام بشار الأسد يعانون من سوء المعاملة والتعذيب في مراكز الاحتجاز. ووثقت منظمة العفو الدولية، في تقرير لها نشرته عام 2016 تحت عنوان: "إنه يحطم إنسانيتك: التعذيب والمرض والموت في سجون سوريا"، جرائم ضد الإنسانية ارتكبتها قوات بشار الأسد في سجن صيدنايا الذي أعتبرته "مسلخا بشريا"، حيث ذكر تقرير لمنظمة العفو الدولية عام 2017 أن النظام السوري أعدم 13 ألف شخص، بينهم ناشطون بسجن صيدنايا، في بداية الاحتجاجات سنة 2011.
خلاصة القول أن الإعلان عن انتصار الأسد لا يعدو عن كونه خرافة تخفي الوضعية الاستعمارية الجديدة بمركباتها الخارجية والداخلية، لكنها تكشف عن هشاشة الوصول إلى حالة من الاستقرار، وتشير إلى مستقبل مظلم. فالأسد أضعف مما يبدو، كما تحاجج جنيفر كافاريلا، إذ يعتمد حكمه على دعم الرعاة الأجانب، مثل إيران وروسيا، وإنهاك الدول التي عارضته في السابق، مثل الأردن. وقرار الأسد تدويل الحرب سيضع الأساس لحروب مستقبلية؛ تهدد تكتيكاته للمذبحة الجماعية بإذكاء تمرد جهادي عالمي طويل الأمد سيبقي القتال مستمرا في سوريا لسنوات مقبلة. وكما أشرنا منذ اندلاع الحركة الاحتجاجية الثورية في سوريا، فإن قوى المعارضة المسلحة سوف تتفتت وتنهار، وسيتحول بعضها لـ"صحوات"، ولن يصمد في النهاية سوى الحالة الجهادية بقيادة تنظيم "الدولة الإسلامية" الأشد صلابة على صعيد البناء الهيكلي التنظيمي، وعلى صعيد السردية الأيديولوجية الصلبة لمشكلة الهوية "السنية" الممتهنة في العراق وسوريا. وفي سياق المعادلة الجديدة بعد الانتهاء من
إدلب، نوشك أن ندخل حقبة جديدة من الصراع والصدام؛ عنوانها الأبرز "الهوية السنية".