لن يراك الطبيب فحالتك ليست حالة طارئة..
بهذه العبارة واجهت الممرضة بالمستشفى العمومي الشابة مريم التي التجأت إلى المستشفى لإثبات حالة اغتصاب تعرضت لها. ومريم شخصية متخيلة في فيلم (على كف عفريت – 2017) للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، وهي في الآن ذاته شخصية حقيقية بنفس الاسم تعرضت لجريمة اغتصاب في العام 2012 بتونس ما بعد "ثورة الياسمين".
تتعرض مريم للاغتصاب على شاطئ البحر وهي بمعية صديقها يوسف. يتوجه الاثنان إلى المستشفى للحصول على وثيقة تثبت الحالة الصحية للضحية لكنهما يعاملان بلامبالاة. تصادف وجودهم هناك بوجود فريق تلفزيوني. يوشوش يوسف في أذن الصحفية التي تفاجأ بالموضوع، فتأمر المصور بتشغيل الكاميرا.
الصحفية: صور.. صور
مريم: متصورنيش.. متصورنيش.
الصحفية: مش لازم. هبط هبط الكاميرا. أوك، مش نصورك.. انت بالحق اغتصبوك أعوان الأمن؟
يوسف: أنا نأكد لك أنهم بوليس.
الصحفية: لحظة نكلم التلفزة ونجيك.
مريم (توجه كلامها ليوسف): شكون قالك نحب نوري وجهي في التلفزة.
يوسف: هما يساعدونا.. هنا ما يسمعنا حد.. يلزم شكون يعاونونا..
مريم: هادي باش تعاونا؟ هادي باش تقضي بينا قضيتها.
يوسف: هادي صحفية.. معناتها تنجم تعمل من حكاية ما سمع بيها حد قضية رأي عام.
مريم: قضية رأي عام؟ تحب تفضحني؟
يوسف: ايلي صار ماهوش فضيحة؟ هما ما نحاسبوهمش.. ما نفضحهومش؟
مريم: يحاسبهم ربي.
قبل ذلك وبثلاثة عقود تقريبا، محمود وفهمي وشكري ثلاثة شبان مصريين وقعت عينهم على فريسة (عفاف) على مقربة من محطة أتوبيس لتنطلق مطاردة الفتاة للظفر بها واغتصابها. تتمكن عفاف من الوصول لمخفر شرطة هربا من ملاحقيها. تحكي قصتها للضابط فيطلب منها فتح محضر بالواقعة.
عفاف: لأ.. أرجوك بلاش محضر.. أبوس إيدك بلاش محضر.
الضابط: ليه بس يا بنت الناس؟
عفاف: حضرتك عارف شرف البنت وسمعتها. الناس مش حتصدق أنها محاولة. الناس حتفتكر أنها تمت وده معناه إني أعيش طول عمري موصومة.. مين في الدنيا حيقرب من إنسانة موصومة؟
الضابط: المحضر بيحفظ لك حقك.
عفاف: أنا حقي وصلني ساعة ما ربنا نجاني وبقيت وسطكم.
الضابط: وما دام ربنا نجاك وخاد بإيدك لازم تفكري في غيرك.
عفاف: غيري؟
الضابط: لو سيبناهم من غير محضر حيقابلوا وحدة تانية وتالتة ورابعة.. إنما بالمحضر والنيابة والمباحث ح نقدر نوقفهم عند حدهم.
عفاف: وقفوهم انتو بطريقتكم لكن مابقاش أنا الثمن وشرفي الضحية.
والمشهد من فيلم (اغتصاب – 1989) للمخرج المصري علي عبد الخالق، وهو فيلم استمد وقائعه من قصة هزت الرأي العام المصري وعرفت باسم قضية "فتاة المعادي" في العام 1985، قبل أن تتكرس نفس وقائع الفيلم أمام محطة أتوبيس في العام 1992 فيما عُرِف وقتها بقضية "فتاة العتبة"، حيث امتدت يد أحد العابثين إلى ما تحت ثيابها فصرخت وسقطت على الأرض فهم عدد من الركاب باغتصابها، وأصبح جسدها مباحاً للجميع.
ثلاثة عقود مرت بكل ما لها وما عليها وبكل الأحداث الجسيمة التي عاشتها المجتمعات العربية في منطقة شهدت كثيرا من التغييرات على مستوى الدول والجماعات والأفراد. لكن الإبلاغ عن جريمة اغتصاب لا تزال "فضيحة" تتجنبها الضحايا وتتستر عليها العائلات بعد أن تحمِّل، كما المجتمع، للفتاة المغتصبة مسؤولية الجرم الواقع عليها. مريم بن محمد، الشابة التونسية التي عاث رجال الأمن بجسدها لمجرد أن وجدوها في وضع "حميمي" على شاطئ بحر واعتبروا ذلك تأشيرة عبور لاستباحته، لم تسكت ولم تعتبر ما وقع لها فضيحة تستتر منها بل قاومت بكل ما أوتيت لاتهام أفراد جهاز أمني كان مسيطرا على أنفاس التونسيين لعقود حكم خلالها بورقيبة وبعده بن علي بيد من حديد. تجرأت الفتاة على كسر حاجز الصمت ووثقت حكايتها في كتاب "مذنبة بأنني اغتُصِبت" ونشرته بفرنسا. صحيح أن زمن الوقائع صادف فورة كرامة هبت نسائمها على المجتمع التونسي بعد تحرره من رأس النظام الأمني الهارب إلى السعودية. لكن واقع الحال كان يؤكد أن الجهاز القمعي كان لا يزال مسيطرا على دواليب الدولة يتحين الفرصة لإعادة تثبيت أركانه وبنفس السلوكيات. انتهت الحكاية إلى حكم صدر في العام 2014 بإدانة رجال الشرطة المذنبين بخمس عشرة سنة سجنا نافذا. لكن الطريق لم تكن سالكة أو مفروشة بالورود. وحدها صمود مريم وظروف ما بعد الثورة كانت كفيلة بالذهاب بالقضية إلى مداها.
داخل مخفر الشرطة يتواصل الضغط على مريم طوال الليل لتقديم التنازل على المحضر في قضية اغتصاب رجال الشرطة لها.
المسؤول الأمني: (وهو يمنحها ورقة للتوقيع عليها) صحح يعيّش بنتي.
مريم: هاو تنازل؟
المسؤول الأمني: ومال اش تحب؟ مش قلت راح تعملي تنازل؟
مريم: ورحمة بابا ما نفرحهم بيه.
الشرطي: واش نعملو توا؟ ماناش مروحين؟ مش قلت تحب تتنازل؟
مريم: لا.. نحب نراهم مطيشين كيف لكلاب في الحبس.
الشرطي: قلنا لك وقفناهم.
مريم: مش لازم القاضي يحكم عليهم ولا أنا غالطة؟
الشرطي: قاضي ومحكمة وشهود واستجواب.. قضية كيما هكا تشد من عمرك ثلاث سنين ع القليلة وانت من محكمة لمحكمة ومن استنطاق لاستنطاق.. بالله قلي خلاف الفوايي (الإقامة الجامعية) في تونس فين عندك وين تسكن؟ وفاش تجيك جلسة في العطلة كيفاش باش تجي؟ في النقل الريفي؟ اش تقول لداركم؟ محكمة كيما هادي لازم محامي.. محامي خشين كفء ويتكلف.. عندك فلوس باش تخلصو؟ والفضيحة باش تشريها؟ تولي ملوطة بالصبع انت وعائلتك وقتها حتى راجل ما يرضى بيك.. اقعد يعيّش بنتي.. تفضل اقعد.. شد خربش هنا وخلينا نروحو.
مريم: ما نصححش.
في مواجهة إصرار الفتاة على متابعة الجناة، لم يجد زملاء أعوان المعتدين غير قلب الحقائق وتزوير المحاضر بل تكييف الوقائع لتحويل الضحية إلى متهمة بخرق القانون. قانون يغطي على المغتصبين لكنه لا يتوانى عن الحديث عن المجاهرة عمدا بالفحش وارتكاب الفعل الفاضح بالشارع العام وما يستتبع ذلك من إدانة تصل لسنوات من السجن والاعتقال.
في فرنسا التي يحلو لحكامنا التشبه بها واستيراد القوانين المعلبة منها، كان مجرد إبلاغ فتاة عن تعرضها للاعتداء والاغتصاب كافيا لتتحرك أجهزة الدرك لاعتقال المغني المغربي سعد المجرد قبل أيام. بعد التحقيق، أخلي سبيل المتهم مع احتجاز جواز سفره ووضعه تحت الملاحقة القضائية بعد توجيه تهمة الاغتصاب اليه بشكل رسمي. لم تكن تلك الواقعة الوحيدة التي يواجهها المجرد في فرنسا بل هي مجرد امتداد لقضايا أخرى لا تزال تنظر أمام المحاكم هناك. قبل سنوات عاش الفنان الشاب نفس الوضع بأمريكا قبل أن يستغل خروجه بكفالة لمغادرة الولايات المتحدة دون رجعة حتى الآن.
عندما اتهم المجرد قبل أقل من سنتين باغتصاب الفتاة الفرنسية لورا بريول، استنكر كثيرون ما وقع واعتبروا الأمر مجرد استهداف من أعداء مفترضين بل وصلت نظرية المؤامرة بالبعض إلى اتهام الجزائر بالضلوع وراء الحادث في إطار الصراع المفتوح بينها وبين جارها الغربي. وعندما تواترت الأنباء عن حالات فتيات مغربيات تعرضن لنفس ما وقع للورا، لم يلتفت أحد لحكاياهن فالسعي لإنقاذ رمز الشباب المغربي "الناجح" كان صوتا لا يعلى عليه. اليوم تأكد بالوقائع أن مكان المغتصبين هو زنازن الاعتقال لأن الإحساس بالقدرة على الإفلات من العقاب لا يولد إلا تماديا في السعي لتحقيق النزوات.
الغريب أن نفس الشعب، الذي أعلن تضامنه مع نجمه، هو الذي استنفر وسائل تواصله لتبني هاشتاغ #كلنا خديجة تضامنا مع الطفلة القاصر التي تعرضت، قبل أيام أيضا، لاحتجاز واغتصاب واعتداء بشع من طرف مجموعة الجانحين ببلدتها. جسد خديجة المليء بالوشوم وآثار الحروق شاهد على حجم معاناة استمرت لشهرين حسب ما تحكيه الفتاة التي تجرأت على رواية ما عاشته وتقديم شكوى لمعاقبة المعتدين. كثيرون رفعوا الصوت والمطالب لمساعدة الفتاة على التخلص من الوشوم التي "زينت" جسدها شهادة على سادية مختطفيها، أما الوشوم والجراح النفسية فتجاوزها يحتاج إلى سنوات.
الأكيد أن خديجة لن تكون في الأخير إلا اسما ينضاف للائحة لا تنتهي من ضحايا غياب التشدد في تطبيق القوانين. فبعد أن تمكن المغاربة من حذف القانون 475 من القانون الجنائي الذي كان يتيح لمغتصب الفتاة الزواج منها للإفلات من العقاب بعد انتحار أمينة الفيلالي، لا تزال المملكة تسجل مئات الحالات بين اغتصاب النساء والأطفال والمحارم بلغت السنة الماضية أكثر من ألف وثمانمائة حالة حسب تقرير رسمي.
في بلدان تتمادى فيها السلطة وأعوانها في اغتصاب الأوطان لا فرق في ذلك بين نساء أو أطفال أو معارضين سياسيين، يسود ازدواج الشخصية المجتمعية التي تتعاطف مع الضحية ومع الجاني في نفس الآن.