هناك مشكلة ثقافية حقيقية الآن تطرح نفسها على التيار
"الليبرالي" في السعودية ونظيره في مصر، والمشكلة تتعلق بإلقاء تهمة نشر
التشدد والتطرف الديني على الطرف الآخر، أو بمعنى آخر : أين ولد التشدد الديني
أولا، في مصر أم السعودية ؟، فالليبراليون في السعودية يؤكدون على نظريتهم التي
تقول أن المملكة كانت تعيش أجواء تحرر وانفتاح على العالم والتحديث حتى وصل إليها
دعاة "الصحوة" الدينية الإسلامية من مصر، وخاصة المتأثرين بمدرسة
الإخوان المسلمين، فتغير الوضع وظهر التشدد والتطرف ثم الإرهاب، وفي المقابل يؤكد
الليبراليون المصريون ومعهم قطاع واسع من اليسار المصري أن مصر كانت بلدا يعيش
الانفتاح الثقافي وحالة تنوير واسعة ولا يعرف الحجاب ولا النقاب ولا التشدد الديني
حتى وصلته الدعوة "الوهابية" من المملكة العربية السعودية، فنشرت التشدد
والتطرف ومن ثم الإرهاب.
القضية
طرحتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وجاءت الردود ـ من كلا الطرفين ـ لتؤكد على
اتساع الاشتباك الثقافي، غير أن أطرافا أخرى دخلت على الخط تتهم الفريقين
الليبراليين بغياب العلمية والموضوعية وأن كل فريق يبحث عن "شماعة" لكي
يعلق عليها فشله في دراسة تطورات المجتمع، أو يبحث عن تفسير سهل لحالة ثقافية
واجتماعية معقدة، هذا بالإضافة إلى فريق رابع يدافع بقوة عن المظاهر الدينية
الشائعة وخاصة النقاب والحجاب ويعتبر أن هذه المظاهر الدينية هي التي تعبر عن صميم
المجتمع العربي المسلم، سواء في السعودية أو مصر أو غيرها من بلاد المسلمين، وأن أي
تراجع لتلك المظاهر في أي حقبة زمنية هو العارض وليس الأصل، وهو الذي يمثل كبوة
حضارية وانتكاسة للأمة عن عمق هويتها الحضارية.
البعض حاول أن يجد مخرجا من التناقض بين الرؤيتين، فقال أن الاثنين
على صواب، فهذه أثرت في تلك والأخرى أثرت في الأولى، غير أن هذا الطرح
"التصالحي" يحاول أن يتجاوز المعضلة القديمة : البيضة أم الدجاجة أولا،
لأنه لا يعقل أن يكون الاثنان ولدا سويا، وآخرون قالوا أن الصحوة الإسلامية صدرت
التشدد الديني إلى المملكة والتشدد الديني في المملكة وضع بصمته على الحالة
الجديدة وأعاد تصديرها إلى مصر، أو حسب عبارة الكاتب الصحفي السعودي صالح الفهيد
" الحقيقة أن الفكر المتشدد أنتجته مصر وصدرته للسعودية التي أعادت تصديره
إلى مصر بعد أن أضافت عليه نكهة من العادات والتقاليد البدوية".
البعض لجأ إلى أرشيف الصور والشهادات التاريخية في البلدين، لكي يؤكد
على أن تلك المظاهر الدينية كانت عميقة في المجتمعين، كوراثة لنمط اجتماعي وحضاري
شائع وشامل في بلاد المسلمين بشكل عام، وأرشيف الصور الذي تركه لنا المستشرقون
الأوربيون في مصر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين يوضح بجلاء أن
النقاب كان حاضرا بل هو الشائع في زي المرأة المصرية، قبل أن توجد أي دعوة وهابية
في مصر ولا أي أثر من آثارها، وبالتالي فإن عودة النقاب والحجاب في الربع الأخير
من القرن العشرين هو استعادة لهوية المجتمع الأصلية، والتي قطعها مسار التغريب في
فترة الاحتلال الانجليزي، وليست بسبب أي مؤثر خارجي.
والمفارقة أن هذا الفريق يستعين بالمفكر المصري الشهير "قاسم
أمين" الذي يوصف بأنه "محرر المرأة"، ويقولون أن كتابه "تحرير
المرأة" الذي نشر في العام 1900 ميلادية، كان يدافع عن حجاب المرأة المسلمة
ولكنه يتحفظ على انتشار النقاب، والشاهد هنا، أن النقاب كان شائعا ومنتشرا وراسخا
في المجتمع بدليل أن دعوة قاسم أمين كانت لمحاربته، وهو ما يعني أن الحديث عن أن
النقاب والحجاب وافدان على مصر بتأثير الدعوة الوهابية هو كلام واهم ولا يدعمه
دليل تاريخي، ويضيف هؤلاء إلى ذلك المظاهرة التي قادتها السيدة صفية زغلول حرم
الزعيم المصري سعد زغلول أثناء ثورة 1919 الشهيرة، والتي تردد أنها حملت الدعوة
للتخفف من الحجاب والنقاب، فلو لم يكن الحجاب والنقاب حاضرين بقوة في المجتمع،
فعلى أي شيء كانوا يثورون أو يحتجون؟
لست بوارد الاصطفاف الآن في ذلك الاشتباك الثقافي، ولكن دراستي لتطور
الأفكار في العالم العربي الحديث جعلتني ألاحظ استسهال النخبة الفكرية أحادية
التفسير للظواهر الاجتماعية، وأحدهم يمكن أن يفسر لك حالة اجتماعية ثقافة ودينية
وقيمية واقتصادية وتاريخية معقدة بتفسير سهل وبسيط وربما ساذج، لمجرد أن ينتصر
لأيديولوجيته الفكرية، فعل ذلك اليساريون قديما بكثيرة، واليوم يبدو أن
الليبراليين يفعلونه أيضا.
عن صحيفة المصريون المصرية