اتصل بي زميل في رابطتنا الثقافية، التي أطلقنا عليها اسم تحبب هو
"عصبة الكتاب السوريين النازحين إلى قارة السكايب"، وطلب يد المساعدة
وذراع العون وساق المؤازرة. كان في فناء المؤسسة التي أسسناها في المنفى نخلة
عالية، في أعلاها عجوة طيبة لا تطال، لم يجرؤ أحد منا على تسلّق النخلة، وجني
عجوتها. نحن أعضاء المكتب التنفيذي في العصبة، لدينا فوبيا من الأمكنة العالية،
كنا نحبها ونعشقها، نتعجب من نموها في بلاد الفرنجة، ونردد أبيات عبد الرحمن
الداخل، صقر قريش، ونحن نطوف بها:
نشأتِ
بأرض أنتِ فيها غريبةٌ
فمثلُكِ
في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي
كنا
قد دعونا الأعضاء إلى جني رطبها، فنكصوا، أو كسلوا، ولم نجد لهم عزماً، ثم برز أحد
الأعضاء البواسل، وضرب على صدره مثل كينغ كونغ، وتنطع لها.. وهو مثقف سوري، يلقّب
بين المعارف بسيادة الجنرال، لكننا سنستقر على وصفه بلقب "كعك بعجوة"،
وسيأتي ذكر سبب هذه الصفة وتفضيلها على "لقب الجنرال"، ولقب "سيادة المشير" وغيرها من الألقاب المشابهة. سألنا عنه الركبان
والكهنة، فزكّوا لنا مهارته في التسلق وقطف ثمار الأشجار العالية، فسقناه إلى
النخلة، معززاً مكرماً، سلمناه مفتاح الدار، وقلنا: تفضل، تسلّق. العجوة لك والنوى
لنا.
أمرَنا
الجنرال بالاقتراب من النخلة، ليتخذ أكتافنا سلّماً، أكتافنا التي سقط عليها
المحال، وأورقت الرجولة والرجال. فنظر بعضنا إلى بعض متعجباً، وكتمنا غيظنا، وغضب
زميلان، وغادرا الباحة، واستقالا احتجاجاً على سوء
أدبه. سكتْنا، واعتبرناه ضيفاً،
والضيف أمير، والمضيف أسير، لعلها زلّة لسان، طمعنا في العجوة، سنأكل كعك بعجوة
أخيراً. عملنا بقول الشاعر: "ومن لا يغمض عينه عن صديقه، وعن بعض ما فيه، يمت
وهو عاتب".
أصدر
السيد "كعك بعجوة" بعض الأوامر والمراسيم، أمر ونهى، وجحد وكفر.. أحضرنا
له مذعورين سلّماً، فصعد درجتين، والنخلة باسقة، ارتفاعها ثلاثون متراً، ثم نزل،
ودفع السلم بقدمه، فكاد أن يسقط علينا، وغاب. قلنا لعله هاب أسباب المنايا، أو
لعله سيحضر بعض الأسباب، المهاميز مثلاً، أو قد يحضر نطاقاً يساعده في النشوء
والارتقاء.. تسلُق نخلة بهذا العلو بطولة، وتحتاج إلى إعداد نفسي وتدريب.
عاد
في الأسبوع الثاني، وحاول التسلق، يبدو أنه قدّر أن العجوة لا تستحق المجازفة،
ربما ظنّ أنه ثمة مصعد آلي، أو سلّم آلي، فخرج من غير وداع، ومن غير قُبل، ولم يعد
إلا بعد سنة كاملة، بعد أن هلك الوالد، وغاب الوافد، وجفّ الضرع، وسقط الزرع. كان
قد نبت طلح منضود جديد كثير، وكنا قد أعطيناه مفتاح الدار، فأحضر فأساً لقطف
الثمار في غيابنا، وأغلق الباب من الداخل، عادة هذا ما يفعله الطغاة؛ قطع شجرة من
أجل ثمرة، كان قد دكّ النخلة دكاً، هذه جريمة في بلاد الفرنجة.
طلب
مني زميلي أن أتصل بصديق شاعر، نلقبه بالأستاذ "سيلفي"، له مع سيادة الجنرال
حبال وجسور، حتى يتوسط بيننا، ويقنع صاحبنا بالكفّ عن قطع النخلة. لقبناه بلقب
"سيلفي" لكثرة حبه لصور السيلفي مع المثقفين المشاهير. يصدّر الصور على
صفحته، مثله كمثل النملة، التي مشت مع الفيل على الجسر، فقالت: الجسر يهتزّ تحت
أقدامنا.
قلت:
عندي حساسية من الشاعر سيلفي.
قال:
حساسية؟ هناك حساسية الأمكنة العالية، وكلنا يخافها، حساسية من أطعمة، من أجواء
ومناخات.. أين الحساسية من شاعر رقيق الحاشية، كثير الزخرفة، مثل الشاعر سيلفي؟!
قلت:
حساسية تشبه حاجز "دوّار الصنم" في حلب من كلمة فيسبوك، كان الحاجز يسأل
كل عابر بعد فحص هويته على برنامج "إكسل" عن "فيسبوك". برنامج
إكسل فيه أسماء كل المتظاهرين الإرهابيين. أخبرته أني أعاني من أنواع من الحساسية
المفرطة، مثال ذلك حساسيتي من رجل مخابرات، لي ذكريات قاسية معه، لا يمكن روايتها،
كان اسمه حيدر، جعلني مصاباً بفوبيا من كل رجل اسمه حيدر، وعندي حساسية من اسم
حافظ.. صديقي التاجر نصحني ببراد الحافظ، عندما قصدته لشراء براد، أغراني بحسم
معقول، وبالتوصيل المجاني.. اعتذرت وطلبت براد البطريق، لم أخبره أنه لن يهنأ لي
عيش مع اسم حافظ في داري.
ختمت
قولي: عندي حساسية من كل شخص يحب السيلفي مع المشاهير، يسبب لي حكّة وهراش.
قال:
عزيزي.. ما رأيك أن تتواصل مع الكاتب الموهوب، ذي العيون الثلاث، الأستاذ
"فلاش باك"، علاقته طيبة مع "كعك بعجوة"، لعلّه ينصحه فيرعوي
ويثوب إلى الرشاد.
قلت:
العود أحمد، لكن عندي منه حساسية أيضاً.. فلاش باك مثقف مهووس بصفة
"بامتياز"، هذا الكاتب يدسّ صفة بامتياز في كل جملة يكتبها: الثورة سقطت
بامتياز، فلان رائع بامتياز، الطعام طيب بامتياز، لا أستطيع أن أتواصل مع كاتب
انتهازي بامتياز.
قال:
طيب اتصل مع "عندليب حلب"، لك معه صحبة قديمة، وهو رجل صاحب حكمة ورأي.
قلت:
عندليب حلب، مثقف قدير، ومحترم، وصديق، لكني أمس رأيت له لقاء تلفزيونا ختمه بجملة
"نحن محكومون بالأمل"، لا يمكن أن أتصل بمثقف يختم اللقاء بهذه الجملة
النكراء.
قال:
ما عيب الجملة؟
قلت:
والله يا صاحب السكايب، عندي منها حساسية بسبب كثرة تكرار النظام السوري لها، وإشاعتها
في صحفه وفضائياته، كأنها حكمة الدهر الأخيرة، بل إني أبغض قائلها، الذي نُصّب
مثقفاً كبيراً على أكتافنا التي سقط عليها المحال وأورقت الرجولة والرجال.. كل
مسرحياته مقتبسة، وكان موالياً متنكراً في قناع المعارضة. اصرف نظر عنه رجاء.
لنبحث عن وسيط غيره.
قال:
اتصل يا عزيزي بخليفة آينشتاين.
قلت:
تقصد الفيلسوف الدكتور..
بعضهم
لا يناديه إلا معظّماً بلقب الدكتور، مؤخراً تحوّل إلى لقب البروفسور؛ لأنه لقب
أكثر هيبة ومستورد من بلاد الفرنجة، لكن صديقاً لي أجرى معه حواراً في صحيفة،
وأشبع غروره، فسبّق اسمه بصفة الفيلسوف. هو يصدّر صوره على صفحته بصور تشبه صور
بشار الأسد، وتحتها جملة: هكذا تنظر الأسود. عندي حساسية من أصحاب نظرات الأسود،
والفلاسفة، ومن لهم قصة شعر آينشتاين.
قال:
طيب.. ما رأيك أن تسعى إلى شفاعة الشاعر "أبو الزلف"، لك معه صحبة،
خاطبه حتى يتشفع لدى "كعك بعجوة بقعة سويلم" ويخرج من باحة الكتّاب
المتحدين، ويكفّ عن قطع النخلة.
قلت:
عندي حساسية من كلمة "تيمة".. أبو الزلف يكثر من كلمة تيمة في مقالاته
المؤتمتة. اعذرني، أبو تيمة سقط من عيني. لا ثقة لي بأصحاب التمائم.
والحقيقة
أني كنت محجوزاً عن صفحته، بيني وبينه حجاب ولا أعرف السبب. الأرواح جنود مجنّدة
ما تعرّف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. والحمد لله رب العالمين.
قال:
طيب اتصل بشاعرة الثورة والنظام وسائر المشرق. لها عليه دالة.
قلت:
أعوذ بالله، هذه امرأة مغرورة جداً، وقد احتجزت بسببها نصف يوم في فرع أمن الدولة،
كتبت مقالاً أستعرض فيه مجموعتها الشعرية عن الظلال والحنين والسنديان، المخابرات
غارت عليها، عندي فوبيا منها، لم أجد أكثر منها غروراً في
سوريا كلها، سوى أنها
تعبد أدونيس، وليس في شعرها سوى الشرفات والحنين والظلال والوحشة، لا أطيق الشعر
الشاعري.
قال
زميلي: عزيزي عندك فوبيا من كل الناس. صاحبنا "كعك بعجوة بقعة سويلم"
بدأ بنشر الشجرة ونحن نتحدث، ونحن نرجوك وندعوك أن تفعل شيئاً، افعل شيئاً يا
هاملت.
قلت:
السوري غالباً مريض نفسياً. أما عمتنا النخلة فالعوض بسلامتك.
قال:
عزيزي هاملت.. خبر عاجل: يبدو أنه نشرها من أصلها. سمعت أنه قطعها، قطع عمتنا
النخلة. ليس بيده، أحضر السيد "كعك بعجوة بقعة سويلم" لجاناً كثيرة،
ولها أسماء عجيبة؛ مثل لجنة "أبي لهب وحمالة الحطب"، ولجنة "السعف
والجريد والسادة والعبيد"، ولجنة "البخور ووقود التنور"،
و"لجنة الأخ الأكبر من العرب والعجم والبربر"، يعني باختصار مضت أيام
الشعر والوجد في باحة دارة عصبة الكتاب المتحدين جداً، ونحن ننشد:
تبدَّتْ
لنا وسْطَ الرُّصافة نخلةٌ
تناءتْ
بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ
فقلتُ
شبيهي في التغرُّب والنوى
وطولِ
الـتَّنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي
لم
أخبره أني أعاني حساسية من نداء "يا عزيزي"، كل من يخاطبني
بـ"عزيزي"، لا أصاحبه، وقد بلغ من لدني عذراً، وأنأى بنفسي عنه مثلما
نأت حكومة لبنان عن سوريا، وصار عندي حساسية من "الكعك بعجوة" أيضاً.
لن
آكل كعك بعجوة بعد الآن.