أَذهل قانون «القومية» الإسرائيلي العالم إلى درجة الصمت، أو هكذا يبدو. فإسرائيل أَشهرت عنصريتها بلا خجل، لا بل شرعنتها
بـ «قانون» يُعلي من شأن «يهوديتها» على حساب «ديموقراطيتها». لم يصدر ردُّ فعل
غربي واحد، ولا حتى تعليق، على الأقل، لدفع الحرج الذي لا بد أن يشعر به الغرب في
المرة المقبلة حين يفاخر بـ «واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط».
مشهد سوريالي حقا. اليمين الديني الإسرائيلي يزايد على
اليمين القومي لسنّ الأعنف من قوانين العداء للفلسطينيين، وإلحاق أكبر أذى بهم.
التطرّف الصهيوني يتكتل وينفي الفوارق ما بين تياراته بأيديولوجيا آتية من وراء
التاريخ، لتُجدد إسرائيل ذاتها، خارجه حتما.
صدمة الفلسطينيين أعظم. ليس لأن فاشية إسرائيل فاجأتهم،
بل للسرعة والعسف الإسرائيلييْن في حسمِ مصيرهم ومستقبلهم. فالذين يعيشون تحت
الحكم الإسرائيلي باتوا مهددين تحت طائلة القانون. والحديث ليس فقط عن إنجازاتهم
ومكتسباتهم التي حققوها عبر نضال مدني طويل، بل كذلك عن وجودهم المهدد بالإلغاء،
وباستبعاد اللغة العربية، وتحويلهم أقلية عرقية فائضة عن حاجة السيادة المطلقة
ليهودية إسرائيل، وتاليا تهجيرهم.
والخطط جاهزة للتنفيذ منذ تأسيس دولة الاحتلال: هيمنة
مطلقة على القدس وأراضي الضفة الغربية، ومبادلات سكانية في مستقبل الحل السياسي،
تتخلص بها إسرائيل من الكتلة السكانية العربية في الجليل والمثلث، وتلحقها بمناطق
الحكم الذاتي أو السلطة الفلسطينية. وهكذا، بعدما «حسمت» إسرائيل من جانب واحد وضع
القدس، ها هي تستهدف قضية اللاجئين، فيما مشاريع الاستيطان كفيلة بإنهاء ملف
الحدود.
هذا كله لم يكن ممكنا لولا الدعم المطلق من الرئيس
دونالد ترامب ومعاونيه الصهاينة، وما تفتقت عنه مخيلاتهم الجامحة من صفقة لـ
«تسوية» القضية الفلسطينية، وإطلاق يد إسرائيل في تفصيل حل على مقاسها.
هذا جزء من الحقيقة. والحقيقة هي أن الكل شريك في هذه
الجريمة الجديدة؛ العالم حين تشدّق بديموقراطية الاحتلال! وقَبِل بهذه المسرحية
من دون اختبار حقيقتها، وحين لم يحاسب إسرائيل أو يحاول ردعها، وحين لم يسأل
كيف يجوز لبرلمان قوة محتلة لشعب آخر أن يُصدر قوانين تكرّس ذلك الاحتلال؟
حين تغاضى عن صعود اليمين الإسرائيلي، بشقيه الديني
والقومي، وقبِل بالمزايدات «القومجية» وقوننة العنصرية ومنحها شرعية، وحين تجاهل
المشاريع التي تستمد شرعيتها من أيديولوجيا دينية محرّفة من وراء التاريخ، لا يرضى
بها التاريخ البشري العقلاني.
وحين حمى هذه الدولة ووفر لها الدعم بأشكاله. يأتيها
رزقها رغدا مثلما يأتي المدد لمخيم صبية من الكشافة. دولة تحولاتها الاقتصادية
والاجتماعية، بالتالي السياسية، لا تعبر عن مجتمع طبيعي تتشكل فيه الأحزاب والقوى
السياسية وفق قوانين التغيير المعروفة في مجتمع راسخ وطبيعي. في إسرائيل، الوضع
مختلف، فالأحزاب والقوى السياسية تتشكل في إطار التنافس على الهدف الأساسي، وهو
الاستيطان باسم «يهودية الدولة»، والأخيرة تدعي لنفسها زورا تمثيل يهود العالم.
لا نراهن على أخلاق العالم، بل على مصلحته بالاستقرار.
ومسألة المهاجرين واللاجئين التي هزّت أوروبا، لهي أوضح دليل على هذه الصلة
الوثيقة بين قضايا العالم.
نراهن على الصمود الفلسطيني الطبيعي كمعطى تاريخي أزلي.
فلا إجلاء الفلسطينيين ممكن، ولا الاحتلال يمكنه الاستمرار في سجنهم تحت مسميات
إدارية. هذا الصمود تحديدا هو ما يفجر عنصرية اليمين الصهيوني وتطرّفه. وما من شك
أن إسرائيل، كدولة متطرفة، بلغت أعلى مراحل الصهيونية، وهذه ما بعدها سوى الانحدار
والسقوط.
نراهن على موقف اليهودية العالمية. فأخطر ما في قانون
«القومية» أنه يفجر مجددا، وعلى خلفية تجربة إسرائيل الفاشلة نسبيا، مسألة
العلاقة بين الدولة ويهود العالم. التظاهرات الأخيرة في واشنطن والبيانات الكثيرة
للتجمعات اليهودية، تعيد تأكيد أن الصهيونية ليست أيديولوجيا اليهود، وأن إسرائيل
لا تمثلهم.
مجددا، سيعيد قانون «القومية» طرح المسألة اليهودية على
بساط البحث. وإذا كان التطرّف الإسرائيلي والاحتلال يقتاتان على اختلال الفكر
العالمي، فإن بوادر الطلاق بائنة مع يهود بلا صهيونية، يهود لهم دينهم، وهو دين
وليس قومية.
الحياة اللندنية