قضايا وآراء

لا خوف على التوافق التونسي رغم حدة الخلافات

1300x600
أتراها وقعت الواقعة وبدأ عقد التوافق يميل إلى الانفراط؟ ذاك ما يذهب إليه كثير من المحللين في تونس، على خلفية تعليق رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، لما بات يعرف محليا بحوارات وثيقة "قرطاج 2" حول برنامج الحكم، وتزايد الخلافات حول إقالة حكومة يوسف الشاهد من عدمها. لكن محللين آخرين يرون أن الحكم بانفراط العقد السياسي بين شريكي السلطة؛ حكم مبكر جدا، وأن ما يحصل من خلافات ليس جديدا على الساحة التونسية، التي تعودت على بلوغ حافة الهاوية دون الوقوع فيها.

أسباب الخلاف وأطرافه

اتفق فرقاء الساحة السياسية التونسية في وثيقة "قرطاج 2" على 63 نقطة تعتبر بمثابة برنامج عمل لإدارة الحكم، واختلفوا في النقطة 64 المتعلقة بمصير الحكومة. وأطراف الخلاف حول مصير حكومة يوسف الشاهد تثبيتا أو إقالة هي التالية:

- الطرف الأول في الخلاف هو حزب نداء تونس، وهو أبرز المطالبين برحيل رئيس الحكومة، المنتمي لذات الحزب. ويقف مع النداء في ذات الخندق الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد الوطني للمرأة التونسية، وهؤلاء مع إقالة الشاهد وحكومته بمبرر فشلها في تحريك عجلة الاقتصاد، وإيجاد حلول للغلاء والتضخم وانخفاض الدينار بشكل كبير.. 

- يقابل هذه الأطراف: حركة النهضة واتحاد رجال الأعمال واتحاد الفلاحين وبعض الأحزاب الصغرى. ويرى هذا الطرف أن تونس ستشهد عام 2019 انتخابات برلمانية ورئاسية، وأنه لا يوجد وقت كاف يسمح بتغيير الحكومة؛ لأن أي حكومة جديدة ستضيع وقتا ثمينا في تشكيلها، وفي استيعابها لوضع البلاد وملفات الحكم حتى تفاجئها الانتخابات، ما يعني أن تغيير الحكومة من شأنه أن يمس باستقرار البلاد، وقد يتسبب في مفاقمة أزماتها القائمة في ظل أزمة مالية حادة تعرفها تونس.

وفي أسباب الخلافات الحقيقة ودوافعها بين الفرقاء كثير من الحديث:

- فمن قائل إن المشكلة كل المشكلة مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد سببها طموحاته السياسية. فالرجل، بحسب أصحاب هذا الرأي، يريد أن يستغل وجوده في السلطة للترشح لرئاسة الجمهورية في انتخابات العام القادم، وأن الرئيس الباجي يريد إزاحته من المشهد حتى يترشح هو أو نجله للرئاسة، في غياب منافس جاد، وأن وجود الشاهد على رأس الحكومة من شأنه إفساد هذا المخطط. ويرى أصحاب هذا الرأي أن رئيس الجمهورية لا يعلن هذا الرغبة، ويختفي خلف الحزب الذي أنشأه (نداء تونس) واتحاد الشغل، اللذين يعملان لصالحه في تحقيق هذا الهدف.

- اتحاد الشغل له حسابه الخاص مع يوسف الشاهد. فالاتحاد يطالب منذ أسابيع بإقالة الشاهد وتشكيل حكومة جديدة. والشاهد حسب تسريبات من أوساط قريبة من اتحاد الشغل بات يمثل مصدر قلق للمركزية النقابية، فوزيره للعدل فتح ملفات فساد تتعلق بقيادات نقابية عليا، والشاهد أيضا دخل في مسار إصلاحات اقتصادية يعترض عليها اتحاد الشغل بشكل كبير، ويرى فيها تفويتا للقطاع العام لصالح الخواص، وخضوعا لإملاءات صندوق النقد الدولي، هذا فضلا عن الصراع الحاد الذي استمر أشهرا بين نقابة التعليم الثانوي ووزير التعليم، وانتهت بهزيمة حادة لأهم النقابات داخل اتحاد الشغل.

- في المقابل ترى حركة النهضة، وهي أبرز داعمي بقاء حكومة الشاهد، ومعها اتحاد رجال الأعمال واتحاد الفلاحين، أن تغيير الحكومة حاليا من شأنه أن يتسبب في خسائر كبيرة لتونس. فالبلاد تعاني أزمات، وتخشى النهضة من أن تتفاقم تلك الأزمات بخسارة أشهر في التفاوض حول الحكومة الجديدة ورئيسها.

- والعارفون بكواليس النهضة وبالمزاج التونسي هذه الأيام يقولون إن ما يزعج النهضة ويزعج جدا كثيرا من التونسيين؛ أن اتحاد العمال جاوز قدره كثيرا، وصار سلطة فوق الحكومات المنتخبة. فكل حكومة لا تعجب النقابة تطالب برحيلها أو تتعمد عرقلتها بشكل بات يمثل خطرا على البلاد.. فالشعب ينتخب أحزابا ويعطيها صوته، وتأتي النقابة غير المنتخبة لتفرض أجندتها وتقيل الحكومات على هواها وحسب مصالحها.. وهو ما ترفضه النهضة مثلما يرفضه الرأي العام.

خلفيات مواقف الفرقاء

موقف النهضة الرافض للتنازلات يفهمه بعض المراقبين على أن الحركة، التي فازت مؤخرا في الانتخابات البلدية بفارق كبير عن حزب النداء، باتت ترى أن من حقها أن يكون لها رأي في الإدارة الكلية للشأن السياسي في البلاد. فليس معقولا أن يقرر حزب النداء وحده مصير الحكومة، رغم أنه خاسر انتخابيا، ورغم أنه فقد معظم كتلته في البرلمان بسبب صراعاته الداخلية، وأن النهضة لو تصرفت معه بانتهازية لصار من حقها تشكيل الحكومة، باعتبارها الكتلة الأكبر في البرلمان بعد انقسامات النداء المتتالية.

لكن الحركة تقول إن حرصها على استمرار التوافق وحرصها على استقرار البلاد وتواصل مسارها الديمقراطي، هو ما جعلها تقبل بالتنازل عن حقها في تشكيل الحكومة، وأنه لا يعقل في الأثناء أن يعاملها الحزب الخاسر في البلدية والفاقد لكتلته وكأنها ملحق له، لا كلمة لها في القضايا المصيرية.

العارفون ببواطن النهضة يقولون أيضا إن الحركة تنظر بقلق بالغ لمواقف النداء المتسرعة والمتقلبة، ما يفقده برأيها، بحسب ما يزعم هؤلاء العارفون، الأهلية في إدارة الشأن العام بشكل انفرادي. فمن عجز عن الحفاظ على حزبه لا يملك يقينا ما يكفي من حكمة التصرف في شأن بلد بأسره.

من جهته، حزب نداء تونس يحمّل حكومة يوسف الشاهد مسؤولية هزيمته الانتخابية مؤخرا في البلديات. وترى قيادات الحزب أن الإبقاء على الشاهد سيتسبب لها في هزيمة كبيرة في انتخابات 2019 البرلمانية والرئاسية، وهو ما من شأنه أن يخرجها من الحكم ومكاسبه الكثيرة، وهي مكاسب مصيرية لبقاء واستمرار حزب ولد للحكم ولا يستطيع أن يعيش إلا به وبغنائمه، كما يقول العارفون بدواليب النداء.

هل بات التوافق في خطر؟

يعتبر التوافق بين إسلاميين وعلمانيين وتقاسم الحكم بينهم؛ من أبرز ما ميز التجربة التونسية، وحافظ على الانتقال الديمقراطي فيها سلسا رغم صعوباته، في أجواء عربية تتميز بالصراعات المنفلتة والحروب والانقلابات والقتل المستشري في معظم دول الربيع العربي.

ويرى بعض المراقبين أن الأزمة الأخيرة والانقسام الحاد في الموقف بين قطبي السياسة التونسية (حركة النهضة وحركة نداء تونس) من شأنه أن يهدد تجربة التوافق. فالتوتر بلغ مستوى غير مسبوق بين الحزبين الكبيرين على خلفية الموقف من إقالة الشاهد من عدمها.

فمنسق حزب النداء حافظ قائد السبسي، نجل رئيس الجمهورية، كتب على صفحته على فيسبوك متسائلا بحدة عن مبررات دفاع النهضة عن الشاهد، مشيرا إليها دون أن يسميها. واعتبر أنها تدافع عن حكومة الفشل والإخفاقات والغلاء وتراجع الدينار، مشددا على أن حزبه لا يتلقى دروسا في المصلحة الوطنية من أحد، في إشارة لحركة النهضة.

ورد رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي بأن حركته تنازلت من قبل كثيرا للمصلحة الوطنية، وأنها لن تتنازل هذه المرة، حفاظا على المصلحة الوطنية، معتبرا أن إقالة الشاهد الآن في ظل التوازنات المالية الصعبة من شأنه أن يسبب ضررا بليغا لتونس.

لا خوف على التوافق

لا يعرف أحد على وجه الدقة ما سيكون عليه المستقبل. لكن المؤشرات تقول إن التونسيين اعتادوا أن يختلفوا ويتبادلوا السباب والشتائم والاتهامات، ثم يعودون لطاولة المفاوضات، باعتبار أن لا حل آخر أمامهم بديلا عن الحوار.

وبالمنطق البسيط الواضح، فإن نداء تونس الذي تستمر النهضة في التنازل له عن رئاسة الحكومة؛ رغم أنها تملك نوابا في البرلمان أكثر من نوابه، لا يمكن له أن يشكل حكومة لو سقطت حكومة يوسف الشاهد؛ إلا بالتوافق مع النهضة.

فحزب النداء لا يملك إلا نحو 58 نائبا من أصل 217 نائبا في مجلس الشعب، 18 منهم مع بقاء الشاهد في رئاسة الحكومة. وسيكون من الصعب عليه أن يتحالف مع الشقوق والدكاكين الحزبية، التي خرجت عليه، إلا بتنازلات حادة يقدمها لها، وهي تنازلات لا يبدو أن الحزب قادر عليها. كما أن تحالفه مع اليسار، ممثلا في الجبهة الشعبية وفي حزب الاتحاد الوطني الحر، لا يكفيه لتشكيل حكومة.. وتلك الحكومة لو تشكلت فستكون عرجاء مهددة بالسقوط في أي لحظة، بالنظر لعقلية الرفض المميزة لأحزاب اليسار التونسي، ما يجعلها أحزابا تعيش في المعارضة ولا تستطيع العيش في إطار ثقافة الحكم.

من هنا لا يمكن للنداء تشكيل حكومة إلا بالتوافق الضروري والاضطراري مع النهضة.. وهذا أمر يدركه رئيس الجمهورية مؤسس حزب النداء ورئيسه الشرفي حاليا، ويدركه منسق الحزب حافظ قائد السبسي.. ما سيتغير أن النهضة التي قبلت في سياقات دولية بتنازلات مؤلمة جعلت مشاركتها في الحكومات السابقة شبه شكلية، ستكون مطالبها من اليوم فصاعدا أعلى سقفا، وستكون مواقفها أصلب، ومطالبتها بأن لا تبت القضايا الكبرى إلا بمشاورتها أكثر جدية وصرامة.

ما ينتظر أن يحصل، حسب المعطيات المتاحة الآن، أن التوافق سيستمر.. لكنه سيصبح لأول مرة توافقا بين أنداد، قد تحدث بينهما خلافات حادة، لكن كل واحد منهما سيحتاج الآخر ليحافظ على موقعه ودوره.. إنه توافق جديد على أسس جديدة، سيجد حزب النداء عنتا في قبوله وهضمه، وهو الحزب الذي تعود من النهضة على التنازل، لكنه سيكتشف أن التنازلات على الأسس القديمة انتهت، لكن التوافق معها ضروري له حتى يحكم.. وكل ذلك في انتظار انتخابات 2019 التي قد تصنع واقعا سياسيا جديدا في تونس.