الموضوع الأول للجدال في
تونس في الأسبوع الأخير هو
برنامج "كاميرا خفية" بعنوان "شالوم". الفكرة هي إيهام شخصيات معروفة، خاصة ممن عرفوا بمناهضتهم للتطبيع، بأنهم مدعوون لحوار صحفي مع وسيلة إعلام أجنبية، لكن يفاجؤون بحضور ممثلين يؤدون أدوار رجل دين يهودي و"سفيرة
إسرائيلية في تونس"، ويعرضون عليهم "الحوار" و"المساهمة في إحلال السلام". وفوق ذلك، يتم عرض حقيبة تحتوي مئات آلاف الدولارات من أجل "دعم مستقبلهم وطموحاتهم". أكثر الحلقات جدلا استهدفت أحد أشهر المعارضين في مرحلة ابن علي، المحامي عبد الرؤوف العيادي، الذي عبر في أصعب الظروف لمناهضته للسياسة
التطبيعية لنظام ابن علي، وسبق أن بادر بعد الثورة بتقديم قانون لتجريم التطبيع عندما كان نائبا في المجلس التأسيسي سنة 2013، لكن لم تسمح الأغلبية النيابية حتى الآن بتمريره.
المشكلة الرئيسية التي أثارت سخط قسم واسع من الرأي العام؛ هي إصرار معدي البرنامج على تسفيه من هو معروف بمناهضته للتطبيع طيلة عقود. وهكذا لا يتم ضرب مصداقية الشخص المعني فقط، بل يتم استهداف رمزي لحركة مناهضة التطبيع عموما. فمن سيصدق أي طرف أو شخص يمعن في ترديد شعارات مناهضة التطبيع؟!
موقف الأستاذ عبد الرؤوف العيادي زمن الاستبداد من التطبيع الذي كان يقوم به نظام ابن علي؛ موقف معروف، ومن ضمن المواقف القليلة الواضحة، التي قام النظام بتجريمها ووضع المناضلين في السجون بسببها، كنت شاهدا سنة 1993 على المرافعة التي قام بها نيابة عن الوالد في قضيته التي تعلقت بالتظاهر، وبنقد النظام لقيامه بالتطبيع سرا آنذاك (حوكم الوالد ثلاث سنوات ونيف سجنا بسبب مناهضته التطبيع، في قضية وصل صداها حتى أروقة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حيث أرسل ابن علي أحد زبانيته، وهو الصادق شعبان للدفاع عن هذا الحكم). كانت مرافعة العيادي أهم وأقوى مرافعة وإدانة صريحة لتطبيع نظام ابن علي آنذاك.
ربما لم يتصرف في برنامج "شالوم" بالشكل المناسب، قياسا للظروف التي تم فيها التصوير، بما في ذلك إقحام أشخاص يؤدون دور مسلحين يقفون مهددين بسلاحهم أمام الكاميرا، لكن أن يتم فسخ تاريخ الرجل بسبب ذلك، في حين يتم تبييض بعض رعاع نظام ابن علي الذين كانوا مجرد شواش لنظام غارق في التطبيع والتسويق له في المنطقة، فهذه إهانة لذكاء أي كائن بشري.
وقد أصدرت نقابة الصحفيين التونسيين بيانا أدانت فيه البرنامج لهذه الأسباب؛ قالت فيه: "لا يمت هذا العمل بصلة للمنتوج الصحفي ولا الاستقصائي، ولا يستجيب لمعايير
البرامج الترفيهية المعروفة بالكاميرا الخفية، ويتضمن انتهاكا صارخا لأخلاقيات المهنة عبر خلق وضعية وهمية واستغلالها لإجبار الضيوف على الإدلاء بتصريحات في اتجاه معين، مع التذكير بأن أبسط قواعد الإعلام تفرض موافقة المعنيين بالأمر قبل بث الحلقات عبر عقد بين الطرفين". وأضافت: "إن استعمال القوة والترهيب في التعامل مع الضيوف، وإجبارهم على مواصلة المشاركة في اللقاء وانتزاع تصريحات، لا يمت للعمل التلفزي والإعلامي بأي شكل من الأشكال".
كما نددت نقابة الصحفيين بالبرنامج، على أساس الإخلال بمقتضيات المهنة، واعتبرت أنه تشجيع على التطبيع، قائلة: "إن التمرير اليومي لمشاهد تتضمن علم الكيان الصهيوني يعتبر تطبيعا مع هذا الكيان المحتل وتمييعا للقضية الفلسطينية، خاصة في ظل الوضع الإقليمي والدولي الذي يتعرض فيه الحق الفلسطيني إلى هجمة شرسة، ولا سيما القرار الأمريكي الجائر بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، في إشارة واضحة للاعتراف بها عاصمة للكيان المحتل".
لكن من أتعس الأشياء التي تحصل في السنوات الأخيرة؛ أن يقوم أرذل الناس في النظام السابق (الذي كان يقتات من التموقع في استراتيجيا التطبيع، ويمكن أن أكتب في ذلك الصفحات) بالتظاهر بمواقف "وطنية"، تخالهم فيها أحيانا مرابطين طيلة عقود في "جبهة الصمود والتصدي".. يتم ذلك فقط في سياق ثأر أيديولوجي لا غير، وليس من باب العزة القومية والانتصار الحقيقي والجدي لعروبة فلسطين.
ويمكن أن نكتب الصفحات الطوال للتدليل على تموقع النظام التونسي قبل الثورة في استراتيجية التطبيع، حتى قبل سيطرته على مقاليد الحكم عقب الاستقلال، وهو ما سبق أن كتبت عنه باسم مستعار ("الطاهر الأسود) في مقال حول تونس وتموقعها في الاستراتيجية الأمريكية وسط العشرية الأولى من القرن الجديد. ففي تونس تمت أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات جولات أساسية من الاتصالات السرية، ثم المفاوضات الرسمية الأولى من نوعها لمنظمة التحرير الفلسطينية مع الإدارة الأمريكية (من خلال سفيرها في تونس جورج بيليترو الابن، ثم بمشاركة دنيس روس). وعلى سبيل المثال، فإن المعطى الأساسي الذي ركزت عليه الصحف الأمريكية في أثناء زيارة المخلوع ابن علي إلى الولايات المتحدة، في شهر أيار/ مايو 1990، كانت الأقاويل حول رسالة شفوية حملها من زعيم منظمة التحرير إلى الرئيس بوش. كما لم ينفك النظام التونسي عن التركيز، وبشكل علني، على الدور الأساسي الذي أداه في التوصل إلى اتفاقيات أوسلو وفي الاتصالات السرية التي سبقته. وفي مقال نادر للحبيب بن يحيى، وزير خارجية النظام في أغلب الفترة الممتدة من 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 إلى الآن، عندما كان سفير تونس في الولايات المتحدة سنة 1985، وضح المسؤول التونسي أهم أسس السياسة الخارجية التونسية. وفي إطار حديثه عن الدور الإقليمي للحكومات المغاربية بشكل عام، حرص ابن يحيى على التركيز على أن رؤية بورقيبة، ومن ثم تونس، على "حل سلمي" للصراع العربي الإسرائيلي، يؤدي دورا رئيسيا في تعميق العلاقات التونسية (والمغاربية) الأمريكية.
وربما يعتقد الكثيرون خطأ أن الطريق التونسي إلى تل أبيب كان أساسا من خلال واشنطن. وبالرغم من صحة ذلك جزئيا، فإن الطريق المعاكس، من تونس إلى واشنطن عبر تل أبيب، كان أكثر أهمية. وفي الواقع، توضح إحدى الدراسات المهمة المتعلقة بتطور علاقات دول المغرب العربي في إسرائيل منذ أواسط القرن، التي اعتمدت على عدد من الوثائق الإسرائيلية التي رفعت عنها السرية مؤخرا، أن حرص بورقيبة الشديد، وذلك حتى قبل وصوله إلى السلطة، على تمتين علاقته بالولايات المتحدة، كان مرتبطا بقوة بمسار تقوية علاقاته بأطراف إسرائيلية مختلفة، بما في ذلك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
كل ذلك لا يحيلنا على منظومة الممانعة وجبهة المقاومة والتحرير، كما يريد أن يدعي نوستالجيو نظام ما قبل الثورة، وأن يسوّقوا له ضمنيا من خلال برنامج "شالوم" الذي كأن قصته ونص السيناريو الخاص به، كُتبا في أقبية الصحف الصفراء لشبكة الإعلام الأسود السائدة قبل 2011، حين يتم اتهام المعارضين له بكل صفاقة بأنهم مجرد عملاء لإسرائيل، ويتم التسويق لابن علي كأنه وطنجي يتصدى للتدخل الأجنبي. وهو في الواقع يتصدى فقط لمن ينصحه بترميم نظامه لحمايته. عدا عن ذلك، فقد كان موظفا محليا طيعا، ويسعى فقط للتموقع الجيد في الاستراتيجية الأمريكية- الإسرائيلية في المنطقة، وسعى دائما لتقديم الخدمات لا غير.