في الملاحظات التي ألقاها خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده بالاشتراك مع نظيره الفرنسي عند زيارة هذا الأخير للولايات المتحدة، كرّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ادعاءه المزمن بأن بلاده أنفقت "سبعة تريليونات [التريليون هو ألف بليون/ مليار] من الدولارات في الشرق الأوسط".
كان ذلك يوم 24 نيسان/ أبريل الماضي، ومن المفيد أن ننقل كلام ترامب في هذا الصدد كاملا، لما فيه من ابتزاز سافر لحكام الخليج العرب:
"وإن استطعتُ أن أضيف، فإن الدول، وكما أشرتُ البلدان التي تقع في تلك المنطقة، وبعضها عظيمة الثروة، ما كانت لتوجد لولا الولايات المتحدة، وإلى درجة أقل فرنسا. ما كانت لتوجد لولا الولايات المتحدة. ما كانت لتصمد أسبوعا واحدا. نحن الذين نحميها. وعليها الآن أن تقوم وتموّل ما يجري، لأنني لا أظنّ أن على فرنسا أو الولايات المتحدة أن تتحمّلا الكلفة الهائلة.
الولايات المتحدة متواجدة في الشرق الأوسط إلى حدّ محرِج. وكما قلتُ قبل بضعة أشهر، وكما سمعتموني أقول سابقاً (ولا أتحمّل المسؤولية، ولو كان عليّ أن أتحمّلها لكنتُ محرَجاً جداً) سبعة تريليونات… أنفقنا سبعة تريليونات من الدولارات في الشرق الأوسط، ولم نحصل على شيء لقاءها. لا شيء. أقل من لا شيء في نظري. هذا خلال فترة ثمانية عشر عاما.
البلدان الموجودة هناك التي تعرفونها جميعا تمام المعرفة، هي عظيمة الثروة. فسوف ينبغي عليها أن تدفع ثمن ذلك. وأعتقد أن الرئيس [الفرنسي] وأنا متفقان بشدّة على ذلك. وسوف يدفعون. سوف يدفعون. تكلمنا معهم. سوف يدفعون. ولن تستمر الولايات المتحدة في الدفع". (عن الأصل الإنجليزي المنشور على موقع البيت الأبيض الرسمي).
وحقا، كما نوّه به هو نفسه، فإن ترامب كرّر مثل هذا الكلام عن إنفاق بلاده "سبعة تريليونات من الدولارات في الشرق الأوسط" عشرات المرّات، بدءا من حملته الانتخابية في عام 2016 وحتى هذا اليوم.
ورصدت صحيفة "واشنطن بوست" تصريحات ترامب، فوجدت أنه كرّر ذلك الادّعاء أكثر من ثلاثين مرّة منذ تولّيه الرئاسة وحتى نهاية الشهر الماضي.
وبالرغم من كشف الصحافة الأمريكية لزيف ذلك الادّعاء أكثر من مرّة، فإن رئيس "الأخبار الكاذبة" لم يأبه للأمر، وكيف به يأبه وقد احترف الكذب منذ ولوجه مهنة بيع وشراء العقارات، وهو لا يزال شابا.
في الواقع، فإن أعلى تقدير علمي لكلفة ما قامت به الولايات المتحدة تحت راية "الحرب على الإرهاب" خلال السنوات الثماني عشرة المنصرمة منذ عام 2001، وتحديدا منذ هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر من ذلك العام، يصل إلى رقم 5.6 تريليون من الدولارات، وهو تقدير ورد في دراسة أعدّتها جامعة براون الأمريكية في نهاية العام الماضي. غير أن الرقم المذكور لا يقتصر على النفقات الأمريكية في "الشرق الأوسط" وحسب، بل يشمل أبواباً مختلفة.
والحال أن النفقات الإجمالية للعمليات العسكرية الأمريكية في أربعة بلدان هي العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان، لم تتعدّ 1.9 تريليون (ألف بليون) بين 2001 و2018 حسب الدراسة المذكورة.
علما بأن حرب أفغانستان التي تشكل قسما كبيرا من المجموع (التي قرّر ترامب تصعيدها) خارجة عن نطاق الشرق الأوسط والخليج.
أما سائر النفقات وصولا إلى 5.6 تريليون، فتتضمّن الزيادة في الميزانية العسكرية الأمريكية العادية، ونفقات وزارة الأمن الوطني (Homeland Security) ونفقات إعالة قدامى الحرب، كما أن قسطا كبيرا من النفقات يتشكّل من الفوائد المترتّبة على كون الحكومة الأمريكية تستدين لأجل إنفاق هذه المبالغ الطائلة (تقدّر الدراسة أن كلفة ذلك الدَين المتراكمة قد تبلغ 7.9 تريليون في عام 2056).
والحقيقة أن هذه الاستدانة ناتجة عن خيار الرؤساء رونالد ريغان وجورج دبليو بوش ودونالد ترامب الجمع بين تخفيض الضرائب على أثرياء بلادهم وزيادة نفقاتها العسكرية (بلغت هذه النفقات ذروتها في عهد ريغان بدون أي حرب أمريكية في الشرق الأوسط، بل لا حرب أمريكية على الإطلاق).
بكلام آخر، فإن ترامب الذي قرّر هو بدوره تخفيضاً جديداً كبيراً للضرائب على أثرياء بلاده (وهو أحدهم) وزيادة جديدة كبيرة في ميزانية البنتاغون بحجة أن القوات الأمريكية تعاني من الضمور (كذا)، ترامب هذا عينه يريد من حكام الخليج أن يموّلوا نفقات بلاده العسكرية فوق الذي موّلوه عبر السنين من خلال شرائهم سندات الخزينة الأمريكية وشرائهم للسلاح والعتاد الأمريكي بمبالغ عظيمة وتمويلهم لتواجد القوات الأمريكية على أراضيهم.
ناهيك عن تريليونات الدولارات التي لا تُحصى التي جنتها الولايات المتحدة من الخليج منذ دخول شركاتها النفطية منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى في أوائل القرن الماضي وإلى يومنا، وهي تحديدا المصلحة الكبرى التي حدت بواشنطن على التدخل العسكري المستمرّ في الشرق الأوسط.
وناهيك أيضا عن أن حكام الخليج وغيرهم من أصدقاء واشنطن العرب، امتعضوا من إصرار إدارة بوش على احتلال العراق، لخشيتهم من أن ذلك سيؤدي إلى تحكّم إيران بذلك البلد.
ولم تُفلح واشنطن في العراق سوى في تحقيق ما خشته الأنظمة الخليجية وبامتياز، فبات العراق واقعاً تحت هيمنة طهران شبه الكاملة. أما دور إدارة باراك أوباما في سوريا، فلا نبالغ إذا قلنا إنه كان محوريا في الحؤول دون سقوط نظام آل الأسد، وفي فسح المجال أمام التدخّلين الإيراني والروسي.
هذه هي المآثر العظيمة التي يريد ترامب أن يحفظ حكام الخليج الجميل لأمريكا لأجلها، بعدما أوصلت واشنطن أمنهم إلى أخطر مستوى عرفوه في تاريخهم. يا لها من حماية ناجعة يمنّن عليهم ترامب بها!
* كاتب وأكاديمي من لبنان
عن صحيفة القدس العربي