كان نيسان/ إبريل 2003 شهرا كئيبا وقاسيا في آن، إن صح لنا أن نستعير افتتاحية "الأرض الخراب"؛ وحتى بعد مرور خمسة عشر عاما على التاسع منه، ليس ثمة وسيلة للتخلص من مرارة يوم سقوط بغداد.
لم تكن الحرب على العراق مبررة، بأية صورة من الصور. ادعى الأمريكيون والبريطانيون أنهم يقومون بالحرب نيابة عن المجتمع الدولي، بهدف نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، التي تشكل خطرا على أمن العالم.
ولكن، لا وكالات الأمم المتحدة المتخصصة كانت أنهت عملها في العراق، ولا الولايات المتحدة وبريطانيا وجدت غطاء قانونيا دوليا، مهما كان هذا الغطاء هشاً، لتسويغ غزو بلد سيد ومستقل، يبعد عنهما آلاف الأميال.
كانت حربا في جوهرها أقرب إلى حروب إمبرياليات القرن التاسع، عندما كانت السفن البريطانية والفرنسية المسلحة تنطلق لغزو دول مثل الجزائر أو الصين، ليس لسبب سوى حدة استقبال الباي الجزائري للسفير الفرنسي أو مكافحة السلطات الصينية تجارة الأفيون.
الشعور الفادح بالمظلومية، وليس الانتصار لنظام البعث، هو الذي دفع آلاف الشبان العرب إلى العراق للقتال ضد الغزاة.
وبالرغم من المظاهرات الحاشدة التي شهدتها لندن ومدريد وعواصم غربية أخرى، رأى ملايين العرب والمسلمين في سقوط بغداد إهانة لكل واحد منهم.
والحقيقة، أن إيقاع الإهانة بالعرب والمسلمين كان دافعا أساسيا بين دوافع الحرب. لم يعد ثمة شك الآن، وبعد نشر نتائج عدد من التحقيقات الرسمية وغير الرسمية، في لندن وواشنطن، أن الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج بوش الابن، ورئيس الحكومة البريطانية الأسبق، توني بلير، كانا يعرفان أن ليس ثمة سلاح دمار شامل في العراق؛ وإن وجد هذا السلاح، لم يكن لديهما ثمة دليل على وجوده.
ولكن بوش كان قد صمم على غزو العراق حتى قبل اندلاع الجدل حول السلاح؛ بينما وجد بلير أن لا مناص أمام بريطانيا سوى الالتحاق بالحليف الأمريكي التاريخي، بغض النظر عن المسوغات.
واعتاد نائب الرئيس الأمريكي يومها، ديك تشيني، الذي لعب دورا رئيسا في التحريض على الحرب، وزوجته، دعوة أكاديميين أو مثقفين كبار لمنزلهما صباح الأحد، لتناول الإفطار وإثارة نقاش حول مسائل تتعلق بالشأنين الأمريكي والعالمي.
أحد ضيوف تشيني، قبل فترة من اتخاذ قرار الحرب، كان المؤرخ البريطاني ـ الأمريكي العجوز برنارد لويس. ما قاله لويس لنائب الرئيس، معلقاً على هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، أن هناك مشكلة تواجه قيادة الولايات المتحدة للعالم في حقبة ما بعد الحرب الباردة، تتعلق بالعرب والمسلمين، على وجه الخصوص.
أقر معظم العالم، قال لويس، خلال القرن العشرين، بصورة أو أخرى، بانتصار النموذج الغربي، المستند إلى النمط الرأسمالي في الاقتصاد والقيم الليبرالية في الاجتماع والسياسة.
العرب والمسلمون هم الكتلة الثقافية الوحيدة التي ترفض الاعتراف بالانتصار الغربي ولم تزل تقاوم النموذج. للتعامل مع هذه المشكلة، اقترح لويس، لابد من إيقاع هزيمة ثقيلة الوطأة بالعرب والمسلمين، هزيمة لا تحتمل التأويل. ولم يكن مثل احتلال بغداد واستباحتها تعبيراً عن التباين الصارخ بين الانتصار والهزيمة.
ليست بغداد مقر دولة الإسلام لأكثر من خمسة قرون، وحسب، بل وحاضنة تاريخ العرب والمسلمين، فيها نضجت لغتهم وآدابهم، ولد فقههم، تبلورت قيمهم، وتشكلت رؤيتهم لأنفسهم وللعالم. وربما كان هذا ما أوحته كلمات توني بلير لقوات جيشه في مدينة البصرة، مباشرة بعد نجاح عملية الغزو والاحتلال، عندما قال أن هذه الحرب سترسم ملامح القرن الحادي والعشرين!
اليوم، يمكن القول، ربما، إن مشروع غزو العراق واحتلاله لم يؤت ثماره المرجوة في واشنطن ولندن؛ وأن برنارد لويس، على غير عادة المؤرخين، كان تسرع في توجيه نصيحته الخاصة جدا لنائب الرئيس. لم يخضع غزو العراق واحتلاله العرب والمسلمين، ولا صنع مجداً لبوش وبلير.
ولكن الحرب كانت كارثة بكل المقاييس، كارثة على من تعهدها وعلى شعوب المشرق ودوله، على السواء، كارثة لم تزدد بمرور السنوات إلا تفاقما.
لم تنته الحرب باحتلال العراق، بل ولدت سلسلة من الحروب الأخرى. نجح الأمريكيون والبريطانيون في الغزو بتكلفة قليلة نسبيا، ولكنهم لم يستطيعوا السيطرة على العراق قط. ولطبيعة التحالفات التي مهدت للحرب، التي منحت فيها القوى الكردية والشيعية السياسية موقعا بارزا، أدى الاحتلال، بإرادة أو دون إرادة أمريكية، إلى تقويض ما تبقى من اللحمة الوطنية العراقية.
أطاح المحتلون الدولة العراقية ومؤسساتها، وأفسحوا المجال واسعاً لاندلاع حرب أهلية عراقية، صعود مناخ طائفي غير مسبوق في تاريخ العراق الحديث، واندلاع صراع عراقي- عراقي مديد على السلطة والقوة والموارد.
ولأن مقاليد العراق سلمت لقوى طائفية، وأن دولته الجديدة بنيت على أساس من المحاصصات المذهبية والإثنية، لم يستطع العراق حتى اللحظة استعادة وحدته. مظلومية الحرب والإهانة التي استبطنتها، من جهة، والفشل في إدارة العراق وتصاعد حدة الصراع الطائفي والإثني، من جهة أخرى، هي التي سمحت ببروز القاعدة السريع في العراق، والتي انتهت، بعد عدد من التحولات، إلى ولادة داعش وما تمثله من وحشية وإيمان عدمي.
تحول العراق سريعا بعد الاحتلال إلى منطقة فراغ استراتيجي، ومصدر خلل كبير في توازنات قوى الإقليم. ولم يكن سوى إيران من يستطيع ملء هذا الفراغ، بعد أن أولت الدول العربية العراق ظهرها، ووضعت كامل ثقتها في الحليف الأمريكي.
عززت إيران المناخ الطائفي الذي ولده الغزو والاحتلال، وعملت على تأسيس العشرات من الجماعات الطائفية المسلحة، التي لم تقل في سلوكها بشاعة وعدمية عن داعش.
ولم تلبث الصنائع الميليشياوية، وخضوع الطبقة السياسية الطائفية وخوفها من بطش الحليف الإيراني، أن ساعدت إيران على اختراق بنية الدولة العراق الجديدة والتحكم في مفاصلها.
عندما غادر الأمريكيون بعد سنوات ثمان من الإخفاق، كان العراق أصبح رسمياً، وباعتراف دولي ضمني، منطقة نفوذ إيراني.
السيطرة على العراق هي التي نقلت الثقة الإيرانية بالنفس إلى مستوى من الغرور والصلف، وهي التي صنعت الظروف المواتية لرفع وتيرة النشاط الإيراني الطائفي في الخليج والجزيرة العربية واليمن، والتدخل الإيراني الدموي في سوريا. ولم يكن التوسع الإيراني وحده من أفاد من كارثة إسقاط العراق.
فعلى الجانب الآخر، وفر التشظي الطائفي والإثني، وانشغال العرب بأنفسهم، فرصة لصعود إسرائيلي غير مسبوق، وحرب وراء أخرى تعهدتها إسرائيل ضد لبنان وسوريا وقطاع غزة، عملت هي أيضاً على نشر الخراب وسفك المزيد من الدماء.
غادر الأمريكيون العراق بعد خسائر فادحة في أرواح الجنود والمعدات، والثمن المالي الباهظ. ولكن غرقهم في العراق كان مناسبة لنهاية التفرد الأمريكي، قصير العمر، في الشأن العالمي.
وعندما عاد الأمريكيون للعراق والشرق الأوسط، باسم مكافحة الإرهاب، كانت حربهم في العراق وعواقبها أوقعت دمارا أسطوريا في عشرات المدن والبلدات العربية، من العراق وسوريا إلى اليمن ولبنان وغزة، أودت بحياة مليونين على الأقل من أبناء شعوب المشرق، وصنعت حالة من الانقسامات والصراعات الداخلية، التي لا يبدو لها من نهاية.
حاول العرب في حركة الثورة والتغيير احتواء سلسلة الكوارث التي ولدتها كارثة العراق. ولكن أنانية الطبقات الحاكمة العربية، وخيانة الغرب الليبرالي، أغرقت حركة الثورة والتغيير في شلال أكبر من الدماء.
مخاوف لبنانية من التصعيد الأمريكي: أين ستكون الضربة المقبلة؟