لم يتردد "فلاديمير بوتين" في التعبير صراحة، وهو يتابع الفرز النهائي لنتائج الاقتراع الرئاسي ليوم الأحد (18 آذار/ مارس 2018)، عن أن الانتخاب استفتاء إيجابي على أدائه، وأن نتيجته شبه التامة تفويض جديد للاستمرار في سياساته تجاه بلده في الداخل، وفي علاقته بالعالم.
فبحسب إعلان "لجنة الانتخابات المركزية الروسية"، حصل "بوتين"، بعد فرز 99.82 في المئة من أوراق الاقتراع، على 76.66 في المئة من إجمالي تأييد الناخبين المشاركين، أي ما يعادل 65 مليون صوت، في حين لم يتجاوز منافسه الثاني في الترتيب، مرشح الحزب الشيوعي "بافل غرودينين"، أكثر من 11.80 في المئة، يليه زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي " فلاديمير جيرنيوفسكي" بـ5,6 في المئة، بينما ظفرت بالمرتبة الرابعة، من أصل ثمانية مرشحين، "كسينا سوبتشاك"، مع 1.65 في المئة. أما المرتبة الأخيرة فكانت لمرشح "الاتحاد الشعبي الروسي" بـ0.65 في المئة، وهي أدنى نسبة في قائمة المتنافسين.
تحمل الأرقام شبه النهائية لنتائج الاقتراع الرئاسي أكثر من دلالة بالنسبة للمسار السياسي لـ"فلاديمير بوتين"، وللقوى المنافسة له، كما تحفز على التفكير في أولويات برنامجه خلال الولاية الجديدة )2018 - 2024). فبحسب تصريح "نيكولاي بولاييف"، نائب رئيس اللجنة الانتخابية المركزية، حقق "بوتين" أفضل النتائج خلال مسيرته الانتخابية، وحطم الرقم القياسي لعام 2004، حين أيده 71.31 في المئة من الناخبين، أي ما يقابل 49 مليون ناخب، كما تعد نتيجة هذا الاقتراع الأفضل في تاريخ روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفييتي.. فـ"بوتين" لم يتجاوز خلال أول انتخاباته عام 2000؛ 52 في المئة، نظير 63.6 في المئة سنة 2012، وبذلك تكون النتيجة شبه النهائية لاقتراع 18 آذار/ مارس 2018، أي 76،66 في المئة، الأعلى والأقوى في تاريخ الرئاسيات الروسية. لكن كيف يمكن، بالمقابل، تفسير التباعد الكبير بين نتائج المتنافسين، والفوز الكاسح للرئيس "بوتين"، لا سيما وأن التقارير المواكبة لعملية تنظيم الانتخابات لم تشر إلى وجود خروقات أو شوائب من شأنها التشكيك في شرعية النتائج، باستثناء بعض الانتقادات والملاحظات الموجهة من قبل زعيم الحزب الشيوعي الروسي؟
تجدر الإشارة إلى أن الاقتراع الرئاسي الحالي مرّ في سياق سياسي موسوم بعدم وجود بديل حقيقي للرئيس "بوتين"، سواء من صفوف الشيوعيين، أو من داخل الليبراليين الديمقراطيين. فالمعارضة تعاني في عمومها من ضعف تنظيمي وتراجع سياسي. ثم إن بقاء بوتين في السلطة أكثر من 18 سنة: مرتان كوزير أول (1999- 2000 و2008 - 2012)، وثلاث مرات رئيسا لروسيا الفيدرالية (2000 - 2004 و2004 - 2008)، ومنذ 2012 وحتى الآن، مكنه من ترسيخ وجوده كقائد سياسي، ورئيس قادر على إعادة أمجاد الروس، بعدما تراجعت قوتهم في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي. لذلك، تنظر عموم مكونات الاتحاد الروسي على أن "فلاديمير بوتين" هو المرشح القادر على ترسيخ قوة روسيا، والمحافظة على مكانتها الدولية. ونلمس هذا الاقتناع في كتابات الكثير من المتابعين للشأن الروسي، والمحللين لقضاياه السياسية، حيث شدد أغلبهم على أن "بوتين" قائد للأمة الروسية بامتياز، وضامن استمرار وحدتها، وهو الذي بوسعه تجنيب البلد الركوع أمام الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا)، وهو أيضا الذي استطاع إرجاع "شبه جزيرة القرم" إلى حظيرة روسيا الاتحادية.
هناك إذن ست سنوات أمام الرئيس "بوتين"، الذي خبر السلطة وخبرته السلطة منذ قرابة العقدين، ولا يبدو في الأفق أن ثمة سياسيا ما من شأنه أن ينغص عليه عودة تربعه على عرش " الكرملين". فالفصل السادس من الدستور الجاري به العمل يعطيه صلاحيات واسعة، والشرعية التي استمدها من صناديق الاقتراع تقويه وتطلق يديه كي يتابع الطريق الذي سلكه منذ العام 2012. لذلك، سيواصل دون شك نهجه بخصوص الملفات الدولية ذات الأولوية، من قبيل القضية السورية، والعلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتوطيد وجود شبه جزيرة القرم ضمن مكونات الاتحاد الروسي. أما داخليا، فأمام الرئيس ملفات قديمة لكنها مستمرة، من أبرزها إنعاش الاقتصاد الروسي عبر تعبئة موارده الطبيعية )النفط والغاز)، والبشرية )التقليل من معدل البطالة التي بلغت 6.2 في المئة)، وتنشيط الاستثمارات.
لا شك أن علاقات روسيا الاتحادية مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ازدادت توتراً منذ رئاسة "بوتين" عام 2012، وقد تعقدت أكثر مع عامي 2014 و2016، حين ألحقت شبه جزيرة القرم عبر الاستفتاء باتحاد روسيا، وهو ما اعتبره الغرب عموما خرقا لسيادة أوكرانيا، ومساساً بالقانون الدولي، ومنذئذ لم يقع الاعتراف بالاستفتاء ونتائجه، بل إن الأمم المتحدة أصدرت توصية غير ملزمة في 27 آذار/ مارس 2014ـ تعتبر من خلالها استفتاء ضمّ "القرم" إلى روسيا عملا غير شرعي، وخرقاً لسيادة دولة أوكرانيا. والتوتر نفسه يشمل الصراع على الأراضي السورية بين روسيا وأمريكا، حيث لكل طرف حساباته الاستراتيجية، ورؤيته السياسية للأزمة وسبل الخروج منها، إن كانت هناك حقا سبل للخروج.
ليس أمام "بوتين" الملفات الدولية فحسب، بل تواجهه تحديات من طبيعة داخلية، وهو ما ينتظر المواطنون مزيدا من الجهد والجدية من أجل تجاوزها. فروسيا تعاني من تضييق غربي على اقتصادها وفرص تسويق منتجاتها، بل إن هناك مقاطعة أوروبية وأمريكية حيالها، وكلها معطيات سياسية واقتصادية من شأنها التأثير على الاستثمار وحركية الإنتاج، وترفع من معدلات البطالة، لا سيما لدى الفئات الأكثر قدرة على النشاط.. إنها جملة من الأولويات التي ستدفع "بوتين" في ولايته الجديدة إلى في جعلها في قلب أجندته وأدائه الرئاسي.